و ما نصيب الحالمين من الحياة ؟؟؟
السيرة الذاتية في قصيدة النثر :قصيدة "ضحكة المارثون" للشاعر العراقي جاسم السلمان أنموذجا.
:::::::::::
قد لا تكشف قصيدة ما عن كل معانيها وأبعادها لكن ذكاء بعض الشعراء وفي ظل التجاذبات العديدة حول سيريالية قصيدة النثر لديهم و وانزياحها الشديد للرمز ،جعلهم يعتمدون على تصدير للقصائد أو تأطير يضع القارئ في المدار الفكري للشاعر فيسهل عليه حينها التحليق في سماء النص ومقاربته.
" (كلما نصنع فرصة للتوحد ونرتدي قمصان الماء
في خليج الحلم تبشرني السماء بالخمرة حتى آخر العمر"
من هنا تبدأ المسيرة ومن هنا تنكشف لنا كثير من المحاسن وبعض العورات ،فليس لشاعر النثر الحق في أن يرى الوجود جميلا إلا لو كان من الحالمين ،لكن لكاتب قصيدة النثر الحق فقط في أحلام اليقظة ، وهذه الأخيرة لا ينام معها العقل ولا يهدأ فيها الفكر .لذلك لم يستطع الشاعر أن يرى الحسن في هذا الوجود الذي يخفي عوراته كما يخفي ثرواته..فماهو نصيبنا منك أيتها الحياة ؟
الحياة لحظة حزن قد تطول و قد تقصر ،الحياة لحظة فرح قصيرة لا يعيشها إلا الحالمون الذين يتجاوزون حالات الحزن بخلق مدار روحي آخر لذواتهم ولواقعهم يسافرون إليه عبر سفن التيه وما قميص الماء (الماء حقيقة الحياة المادة التي لا تخفي الجوهر )إلا وهم لنقطة العبور والوصول ،- العبور الى شاطئ السلام حيث الوهم ذاته هناك -لذلك كانت البشارة خمرة لآخر العمر ولذلك كانت ضحكة المارثون .
ضحكة المارثون الضحكة التي تطول حد الإرهاق ،الضحكة الهستيرية التي لا يغيب معها العقل الاستشرافي الذي شقي به الجسد المرهق بالحزن .الحزن في القصيدة هو الخل الوفي للشاعر هو الرفيق هو الشقيق الروحي لا الروح ذاتها ،لأنه عكس ما نتوقع فإن الروح الحزينة لا تبدع ولا تصنع فرصا ولا تغير واقعا باستسلامها للحزن والألم .وأذكر هنا واقعة مهمة تخص الشاعر الفرنسي Arthur Rimbaud (رامبو)فقد أصيب بطلقة مسدس في معصمه اعتكف بسببها لمدة مع ألمه وأوجاعه فقط وبعد الصراع العنيف خرج لنا بأعظم أثر أدبي له وهو "فصل من الجحيم" وقد يكون الكتاب شكل من السيرة الذاتية لرامبو لكنه عموما هو سيرة إنسانية للنفس الحزينة المتعبة .
أخشى الانجراف في مقارنة الشاعر برامبو بسبب اختلاف السيرة الشخصية للشاعرين لكني أقرأ عادة قصائد النثر بمعزل عن قيود العادة والتقليد والمقدس التي تأثر بالكتاب العرب فيحاولون وأحيانا دون قصد أن يبتعدوا عن العيون الجارحة المتلصصة . وهذه العيون نفسها هي التي جعلت الشاعر الصوفي المتمرد (جاسم السلمان) يجنح إلى السريالية حتى يتمكن من التجذيف الآمن في ذاته أولا ثم الأفق الرحب الذي يحيا به ،وفي الوطن الذي لا بد أن يسير فيه متسكعا أو شريدا حتى تألفه حواريه ولا تأسره عناكبه.أما عين الناقد فلها حرية البحث والإشارة إلى مدى اقتراب التجربة الشعرية لشاعر عربي مع التجارب العالمية الرائدة والتي كانت أنموذجا نضع من خلاله قواعد النجاح للتجارب الشعرية اللاحقة،ومهما بلغنا من نضج في كتابة قصيدة النثر تظل للأسف نصوص الشعراء الغربيين مقياسا حتى وإن سلمنا بأن هناك من النصوص العربية ومن بينها هذا النص لجاسم السلمان تضاهي أو تفوق ما كتبه الآباء الشرعيون لقصيدة النثر منذ فترة ازدهارها إلى الآن.بل وإني مع الرأي القائل بأن لدينا من الشعراء من جدّد في قصيدة النثر وجعل الأنظار تتجه إليها بعد كان الإنبهار أكثر بنصوص الرواد الغربيين خاصة وأن الترجمة لا تنجح ابدا في نقل روح النص كما أرادها الشاعر أن تكون .
عودة إلى الفتى الحالم وإلى جحيم حزنه،ذاك الجحيم الذي كان يحتفي به وهو شاب ، ويختفي منه وهو كهل ،يتعايش معه سابقا كنوع من التحدي والاستئناس فيحاول خلق المساحات البيضاء في كل السواد المحيط به عبر الحلم أو بالأصح التغلب عليه بتوهم القوة بتوهم السعادة بروح الشاب الذي يعجن الطين المتوهج الحارق بالعنب لتكون الإرادة أقوى والمصارعة والنزال ألذ .لكن ماهو جوهر ذاك الجحيم ؟ قبل أن أجيب لنقرأ أولا هذه الأبيات ل: Arthur Rimbaud
طفل مقرفص مملوء أحزانا
وخوف مسترخ
مركب واه تماما مثل فراشة آيار
لم أعد أقدر البتة، أنا المستحم بذبولكم، أنتم ذوو النصال
على الإبحار في ممخر حاملي القطن
و لا عبور زهو (عجرفة) الرايات ذات اللهيب
ولا السباحة تحت لأنظار الرصيف الرهيب
~~~
ثم نقرأ أبيات الشاعر جاسم السلمان
~~~
كان
الخوف وطني
والحزن وطني
والتيه المتجرع كأس الموت
وطنا آخر كان يأسرني؛
كنت
احمله في حقيبتي المدرسية
وأرسمه دولة عشق
بين ضلوعي الفتية ؛
أجيب :هناك كان الخوف والتيه والضياع وهنا عند السلمان الموت والحزن والخوف والتيه نفسه في مركب يسير فوق بركة سوداء هي هذا الوطن الذي قدر لبعض أبنائه أن يكونوا أسرى به لا طيورا محلقة محرضة على الحياة والحلم الوردي. إذن المكان وإن اختلفت جغرافيته هو الذي يخنقنا والبركة السوداء هناك هي نفسها خليجنا الذي كانت ثرواته و مياهه الأنصال الذي ذبحت بها آمالنا في أوطاننا.المكان الذي عشقناه امرأة، الذي أحببناه لذة هو سبب خوفنا الأزلي .لكن كيف ذلك وهو كان :
~~~
"ضيافة مفتوحة "
~~~
والذي كنا فيه
~~~
"نحتضن الكون والكبرياء
دون تكايا وبخور وولائم"
لنتفق أولا أن الخوف والوطن عند الشاعر هو نفسه أي الاسم واللقب حتى لا نفصل بينهما ونحن نحلل أبيات القصيدة.وللأسف حتى وان تغير الاسم في الكبر فاللقب لا ..لذلك الحالة أصبحت مادية لا معنوية أي ثابتة ومستقرة في الشكل ومتطورة في الجوهر والاختلاف فقط في كيفية التعامل معها .فسابقا كان الشاعر في حالة حميمية مع الخوف (أو الوطن) رغم كل السموم والألغام أو ربما الخوف نفسه هو تلك الألغام المزروعة بالوطن.
ومذ كنا صغارا
انا وهو والعصافير
من سلالة واحدة
كان شكلنا يغرق بالصحو
نحتل مساحات الاحلام
باعراس الفقراء
وملئ السنابل
نصنع من اجسادنا مآذن
ومن نهود الصبايا قببا من فضة
يؤذن فيها راس الحلاج
ونصلي
وكل الصلاة عند بابنا
عافية وعشقا ومطر
~~~
قيل أننا بالأحلام والأوهام نحيا وسأقول أنها المخدر الشرعي للتغلب على أحزاننا وخوفنا. وليس الحلم هنا كما أسلفت حلم النائمين بل هو فعل العاقلين العرفانيين الحلم الذي يمكن أن يتجسد فنا أو أدبا أو فلسفة ،الحلم الذي يجعل من الشاعر نبيا.الشاعر النبي الذي مع تقدم العمر به صار للخوف لونا واحدا متعددة انعكاساته حسب الضوء أو العتمة المحيطين به لكن يبقى اللون الأصلي أحمر وهكذا كان دائما لون الدم في حالته الطبيعية فإن اسودّ فبمفعول التقادم والزمن .الشاعر النبي الذي يحيا مع خوفه داخل وطنه الذبيح ،والذي تشارك الجميع استباحته وتوزع وزر دمه بين ذوي القربى قبل الغرباء فلا قدرة للغريب على الدخول لو لم يشرع الإخوة أبواب البيت الآمن للغزو الخارجي.
في الخسائر والهزائم تحديد المسؤوليات والأسباب يكون من الأساسيات وفي الجرائم تحديد الفاعل من الأولويات قصد القصاص وفي حالة الجرائم ضد الوطن يكون بقصد التوقي و تأمين المنافذ لاحقا إلا أن الحقيقة صادمة والأمر عسير حين يكون الخطر من الداخل.ولاننا قلنا أن الشاعر والخوف والوطن هم واحد فإن الضياع مضاعف، ضياع الإنسانية وضياع المكان ....إذن فهو التيه .
~~~
كلهم مثل بعض
ذئاب مثل بعض،
اراقوا دمائك واغتالوا النسل؛
وانا والضياع
سيدي
ضياعك ولوعتي
اتساقط كل يوم
مذبوحا مطعونا مشنوقا
بسيوف الامويين
ورماح العباسيين
وحبال التتر المفزوعيين؛؛
~~~
لكن هذا التيه لم يتمكن لم يتمكن من العقل الاشراقي الذي ما انفك يذكر بالسؤال متى ،كنوع من الاستنهاض للقوى الكامنة بجسد وعقل الأبناء ،وكتذكير بالمجد التاريخي الذي خُلقت له الأمة .
~~~
ايها الثور المجنح
والهزبر في سماوات البارحة
متى،تسترد اساطيرك المستبدة؟
~~~
الشعراء العرب كجاسم السلمان لا يتخلون ابدا على الشعور بتفوق الجنس العربي لذلك ارتباطهم بأوطانهم مسألة رجولة أو بالتدقيق فحولة ،والرجل العربي في مسألة الفحولة لا يُجَادِل ولا يقايض لذلك شاعرنا بدى في خوفه الدافئ أخيرا منتصبا شامخا لأنه في الباطن يختزن قوة وكبرياء تجعل منه رافضا للتسليم ،ويظل على أمل متجدد كلما جاد الوطن بكرمه على أبنائه، أمل بصحوة يعقبها البناء والإنجاز وتجدد خلق الفرص.
~~~
وانت كما تشاء من المواجع
تهب الدنيا
خبزا وبسالة
وحزنا دافئا
وقصيدة تموت على جبين
الشاعر!!!؟؟
~~~
وكم تمنيت أن يختتم الفتى المتمرد قصيدته بما يجعل الشاعر به محور العملية الإبداعية ومحور التغيير والتأسيس لو قال:
وقصيدة تحيا على جبين
الشاعر!!!؟؟
إلا أنه إذا ما عدنا إلى السيرة الشخصية للشاعر جاسم السلمان ندرك سبب اختياره الموت على الحياة لقصائد أحيت الإنسانية لكنها أماتت كتابها. وفي كل الحالات الموت عند صوفي عتيق كجاسم السلمان هو حياة أخرى وعدته فيها السماء بخمرة لا تنضب وضحكة لا تتوقف وليس بعدها رهق. وتجدر الإشارة أن تداخل السيرة الذاتية تستدعي توظيف السرد وقلة من الشعراء الذين تمكنوا من هذه التقنية دون الابتعاد بالنص عن الشعرية و الشاعر جاسم السلمان بخبرة المفكر والأديب المتمرس كان يدرك أن تقديم الفكرة في قالب شعري لا يخلو في تركيبته المعقدة من الوجدان لابد أن يضمن تأثر وتفاعل القارئ وردة الفعل هذه يضمنها أسلوب السرد الذي افتتح به قصيدته ثم لمحناه خفيا في بعض المفاصل .وهو ما جعل القارئ يشعر بأن الشاعر يقرأ له أمامه ومباشرة أبيات قصيدته ،فيحزن لحزنه ويتأثر بتغير النبرات الصوتية حسب كل حالة كان عليها الشاعر وينقلها إلينا الحوار الداخلي بالقصيدة.
(نائلة طاهر)
~~~~~
القصيدة :
(كلما نصنع فرصة للتوحد ونرتدي قمصان الماء
في خليج الحلم تبشرني السماء بالخمرة حتى
آخر العمر) ..
ضحكة المارثون
كان
الخوف وطني
والحزن وطني
والتيه المتجرع كأس الموت
وطنا آخر كان يأسرني؛
كنت
احمله في حقيبتي المدرسية
وأرسمه دولة عشق
بين ضلوعي الفتية ؛
وفي مسيرة الأيام الراجلة
اغسل مرقده من أوزارهم
وانزع ثياب حروبه المدماة؛
ومذ كنا صغارا
انا وهو والعصافير
من سلالة واحدة
كان شكلنا يغرق بالصحو
نحتل مساحات الاحلام
باعراس الفقراء
وملئ السنابل
نصنع من اجسادنا مآذن
ومن نهود الصبايا قبابا من فضة
يؤذن فيها راس الحلاج
ونصلي
وكل الصلاة عند بابنا
عافية وعشقا ومطر
وضيافة مفتوحة
نحتضن الكون والكبرياء
دون تكايا وبخور وولائم
ونضحك ضحكة المارثون
(بكرة وعشيا)
تفوح منا رائحة
القرى والندى ودخان التنانير؛؛
والآن هرمنا
ويجيئني مع الدمع الخوف المتمدن
قبالة وجعي
فصرت
بعيدا جدا
وانت في روحي
ينطفئ ضوؤك فاوقدني
اوقد دمي
كلما تشتهيني حروبك المسماة
ستجدني ان شاءالله
جنديا مجهولا
يعشق الموت سريعا وبليدا
ويحبس فحولته
ويحلم،كيف يرمم جسده سلما؛
ايها الثور المجنح
والهزبر في سماوات البارحة
متى،تسترد اساطيرك المستبدة؟
وانت الممتلئ بالكثافات محتدما
دمك يسيل
ويومك ذبيح
و(وجارك الجنب
والجار ذو القربى)
استنفروا آبائهم
ولوثتهم
واغتالوك في محرابك
وانت النبي
ضيعوك وصاروا بعض سراب
وبعض غبار ينث
كلهم مثل بعض
ذئاب مثل بعض،
اراقوا دمائك واغتالوا النسل؛
وانا والضياع
سيدي
ضياعك ولوعتي
اتساقط كل يوم
مذبوحا مطعونا مشنوقا
بسيوف الامويين
ورماح العباسيين
وحبال التتر المفزوعيين؛؛
وانت كما تشاء من المواجع
تهب الدنيا
خبزا وبسالة
وحزنا دافئا
وقصيدة تموت على جبين
الشاعر!!!؟؟
جاسم السلمان/بغداد1/8/2017
السيرة الذاتية في قصيدة النثر :قصيدة "ضحكة المارثون" للشاعر العراقي جاسم السلمان أنموذجا.
:::::::::::
قد لا تكشف قصيدة ما عن كل معانيها وأبعادها لكن ذكاء بعض الشعراء وفي ظل التجاذبات العديدة حول سيريالية قصيدة النثر لديهم و وانزياحها الشديد للرمز ،جعلهم يعتمدون على تصدير للقصائد أو تأطير يضع القارئ في المدار الفكري للشاعر فيسهل عليه حينها التحليق في سماء النص ومقاربته.
" (كلما نصنع فرصة للتوحد ونرتدي قمصان الماء
في خليج الحلم تبشرني السماء بالخمرة حتى آخر العمر"
من هنا تبدأ المسيرة ومن هنا تنكشف لنا كثير من المحاسن وبعض العورات ،فليس لشاعر النثر الحق في أن يرى الوجود جميلا إلا لو كان من الحالمين ،لكن لكاتب قصيدة النثر الحق فقط في أحلام اليقظة ، وهذه الأخيرة لا ينام معها العقل ولا يهدأ فيها الفكر .لذلك لم يستطع الشاعر أن يرى الحسن في هذا الوجود الذي يخفي عوراته كما يخفي ثرواته..فماهو نصيبنا منك أيتها الحياة ؟
الحياة لحظة حزن قد تطول و قد تقصر ،الحياة لحظة فرح قصيرة لا يعيشها إلا الحالمون الذين يتجاوزون حالات الحزن بخلق مدار روحي آخر لذواتهم ولواقعهم يسافرون إليه عبر سفن التيه وما قميص الماء (الماء حقيقة الحياة المادة التي لا تخفي الجوهر )إلا وهم لنقطة العبور والوصول ،- العبور الى شاطئ السلام حيث الوهم ذاته هناك -لذلك كانت البشارة خمرة لآخر العمر ولذلك كانت ضحكة المارثون .
ضحكة المارثون الضحكة التي تطول حد الإرهاق ،الضحكة الهستيرية التي لا يغيب معها العقل الاستشرافي الذي شقي به الجسد المرهق بالحزن .الحزن في القصيدة هو الخل الوفي للشاعر هو الرفيق هو الشقيق الروحي لا الروح ذاتها ،لأنه عكس ما نتوقع فإن الروح الحزينة لا تبدع ولا تصنع فرصا ولا تغير واقعا باستسلامها للحزن والألم .وأذكر هنا واقعة مهمة تخص الشاعر الفرنسي Arthur Rimbaud (رامبو)فقد أصيب بطلقة مسدس في معصمه اعتكف بسببها لمدة مع ألمه وأوجاعه فقط وبعد الصراع العنيف خرج لنا بأعظم أثر أدبي له وهو "فصل من الجحيم" وقد يكون الكتاب شكل من السيرة الذاتية لرامبو لكنه عموما هو سيرة إنسانية للنفس الحزينة المتعبة .
أخشى الانجراف في مقارنة الشاعر برامبو بسبب اختلاف السيرة الشخصية للشاعرين لكني أقرأ عادة قصائد النثر بمعزل عن قيود العادة والتقليد والمقدس التي تأثر بالكتاب العرب فيحاولون وأحيانا دون قصد أن يبتعدوا عن العيون الجارحة المتلصصة . وهذه العيون نفسها هي التي جعلت الشاعر الصوفي المتمرد (جاسم السلمان) يجنح إلى السريالية حتى يتمكن من التجذيف الآمن في ذاته أولا ثم الأفق الرحب الذي يحيا به ،وفي الوطن الذي لا بد أن يسير فيه متسكعا أو شريدا حتى تألفه حواريه ولا تأسره عناكبه.أما عين الناقد فلها حرية البحث والإشارة إلى مدى اقتراب التجربة الشعرية لشاعر عربي مع التجارب العالمية الرائدة والتي كانت أنموذجا نضع من خلاله قواعد النجاح للتجارب الشعرية اللاحقة،ومهما بلغنا من نضج في كتابة قصيدة النثر تظل للأسف نصوص الشعراء الغربيين مقياسا حتى وإن سلمنا بأن هناك من النصوص العربية ومن بينها هذا النص لجاسم السلمان تضاهي أو تفوق ما كتبه الآباء الشرعيون لقصيدة النثر منذ فترة ازدهارها إلى الآن.بل وإني مع الرأي القائل بأن لدينا من الشعراء من جدّد في قصيدة النثر وجعل الأنظار تتجه إليها بعد كان الإنبهار أكثر بنصوص الرواد الغربيين خاصة وأن الترجمة لا تنجح ابدا في نقل روح النص كما أرادها الشاعر أن تكون .
عودة إلى الفتى الحالم وإلى جحيم حزنه،ذاك الجحيم الذي كان يحتفي به وهو شاب ، ويختفي منه وهو كهل ،يتعايش معه سابقا كنوع من التحدي والاستئناس فيحاول خلق المساحات البيضاء في كل السواد المحيط به عبر الحلم أو بالأصح التغلب عليه بتوهم القوة بتوهم السعادة بروح الشاب الذي يعجن الطين المتوهج الحارق بالعنب لتكون الإرادة أقوى والمصارعة والنزال ألذ .لكن ماهو جوهر ذاك الجحيم ؟ قبل أن أجيب لنقرأ أولا هذه الأبيات ل: Arthur Rimbaud
طفل مقرفص مملوء أحزانا
وخوف مسترخ
مركب واه تماما مثل فراشة آيار
لم أعد أقدر البتة، أنا المستحم بذبولكم، أنتم ذوو النصال
على الإبحار في ممخر حاملي القطن
و لا عبور زهو (عجرفة) الرايات ذات اللهيب
ولا السباحة تحت لأنظار الرصيف الرهيب
~~~
ثم نقرأ أبيات الشاعر جاسم السلمان
~~~
كان
الخوف وطني
والحزن وطني
والتيه المتجرع كأس الموت
وطنا آخر كان يأسرني؛
كنت
احمله في حقيبتي المدرسية
وأرسمه دولة عشق
بين ضلوعي الفتية ؛
أجيب :هناك كان الخوف والتيه والضياع وهنا عند السلمان الموت والحزن والخوف والتيه نفسه في مركب يسير فوق بركة سوداء هي هذا الوطن الذي قدر لبعض أبنائه أن يكونوا أسرى به لا طيورا محلقة محرضة على الحياة والحلم الوردي. إذن المكان وإن اختلفت جغرافيته هو الذي يخنقنا والبركة السوداء هناك هي نفسها خليجنا الذي كانت ثرواته و مياهه الأنصال الذي ذبحت بها آمالنا في أوطاننا.المكان الذي عشقناه امرأة، الذي أحببناه لذة هو سبب خوفنا الأزلي .لكن كيف ذلك وهو كان :
~~~
"ضيافة مفتوحة "
~~~
والذي كنا فيه
~~~
"نحتضن الكون والكبرياء
دون تكايا وبخور وولائم"
لنتفق أولا أن الخوف والوطن عند الشاعر هو نفسه أي الاسم واللقب حتى لا نفصل بينهما ونحن نحلل أبيات القصيدة.وللأسف حتى وان تغير الاسم في الكبر فاللقب لا ..لذلك الحالة أصبحت مادية لا معنوية أي ثابتة ومستقرة في الشكل ومتطورة في الجوهر والاختلاف فقط في كيفية التعامل معها .فسابقا كان الشاعر في حالة حميمية مع الخوف (أو الوطن) رغم كل السموم والألغام أو ربما الخوف نفسه هو تلك الألغام المزروعة بالوطن.
ومذ كنا صغارا
انا وهو والعصافير
من سلالة واحدة
كان شكلنا يغرق بالصحو
نحتل مساحات الاحلام
باعراس الفقراء
وملئ السنابل
نصنع من اجسادنا مآذن
ومن نهود الصبايا قببا من فضة
يؤذن فيها راس الحلاج
ونصلي
وكل الصلاة عند بابنا
عافية وعشقا ومطر
~~~
قيل أننا بالأحلام والأوهام نحيا وسأقول أنها المخدر الشرعي للتغلب على أحزاننا وخوفنا. وليس الحلم هنا كما أسلفت حلم النائمين بل هو فعل العاقلين العرفانيين الحلم الذي يمكن أن يتجسد فنا أو أدبا أو فلسفة ،الحلم الذي يجعل من الشاعر نبيا.الشاعر النبي الذي مع تقدم العمر به صار للخوف لونا واحدا متعددة انعكاساته حسب الضوء أو العتمة المحيطين به لكن يبقى اللون الأصلي أحمر وهكذا كان دائما لون الدم في حالته الطبيعية فإن اسودّ فبمفعول التقادم والزمن .الشاعر النبي الذي يحيا مع خوفه داخل وطنه الذبيح ،والذي تشارك الجميع استباحته وتوزع وزر دمه بين ذوي القربى قبل الغرباء فلا قدرة للغريب على الدخول لو لم يشرع الإخوة أبواب البيت الآمن للغزو الخارجي.
في الخسائر والهزائم تحديد المسؤوليات والأسباب يكون من الأساسيات وفي الجرائم تحديد الفاعل من الأولويات قصد القصاص وفي حالة الجرائم ضد الوطن يكون بقصد التوقي و تأمين المنافذ لاحقا إلا أن الحقيقة صادمة والأمر عسير حين يكون الخطر من الداخل.ولاننا قلنا أن الشاعر والخوف والوطن هم واحد فإن الضياع مضاعف، ضياع الإنسانية وضياع المكان ....إذن فهو التيه .
~~~
كلهم مثل بعض
ذئاب مثل بعض،
اراقوا دمائك واغتالوا النسل؛
وانا والضياع
سيدي
ضياعك ولوعتي
اتساقط كل يوم
مذبوحا مطعونا مشنوقا
بسيوف الامويين
ورماح العباسيين
وحبال التتر المفزوعيين؛؛
~~~
لكن هذا التيه لم يتمكن لم يتمكن من العقل الاشراقي الذي ما انفك يذكر بالسؤال متى ،كنوع من الاستنهاض للقوى الكامنة بجسد وعقل الأبناء ،وكتذكير بالمجد التاريخي الذي خُلقت له الأمة .
~~~
ايها الثور المجنح
والهزبر في سماوات البارحة
متى،تسترد اساطيرك المستبدة؟
~~~
الشعراء العرب كجاسم السلمان لا يتخلون ابدا على الشعور بتفوق الجنس العربي لذلك ارتباطهم بأوطانهم مسألة رجولة أو بالتدقيق فحولة ،والرجل العربي في مسألة الفحولة لا يُجَادِل ولا يقايض لذلك شاعرنا بدى في خوفه الدافئ أخيرا منتصبا شامخا لأنه في الباطن يختزن قوة وكبرياء تجعل منه رافضا للتسليم ،ويظل على أمل متجدد كلما جاد الوطن بكرمه على أبنائه، أمل بصحوة يعقبها البناء والإنجاز وتجدد خلق الفرص.
~~~
وانت كما تشاء من المواجع
تهب الدنيا
خبزا وبسالة
وحزنا دافئا
وقصيدة تموت على جبين
الشاعر!!!؟؟
~~~
وكم تمنيت أن يختتم الفتى المتمرد قصيدته بما يجعل الشاعر به محور العملية الإبداعية ومحور التغيير والتأسيس لو قال:
وقصيدة تحيا على جبين
الشاعر!!!؟؟
إلا أنه إذا ما عدنا إلى السيرة الشخصية للشاعر جاسم السلمان ندرك سبب اختياره الموت على الحياة لقصائد أحيت الإنسانية لكنها أماتت كتابها. وفي كل الحالات الموت عند صوفي عتيق كجاسم السلمان هو حياة أخرى وعدته فيها السماء بخمرة لا تنضب وضحكة لا تتوقف وليس بعدها رهق. وتجدر الإشارة أن تداخل السيرة الذاتية تستدعي توظيف السرد وقلة من الشعراء الذين تمكنوا من هذه التقنية دون الابتعاد بالنص عن الشعرية و الشاعر جاسم السلمان بخبرة المفكر والأديب المتمرس كان يدرك أن تقديم الفكرة في قالب شعري لا يخلو في تركيبته المعقدة من الوجدان لابد أن يضمن تأثر وتفاعل القارئ وردة الفعل هذه يضمنها أسلوب السرد الذي افتتح به قصيدته ثم لمحناه خفيا في بعض المفاصل .وهو ما جعل القارئ يشعر بأن الشاعر يقرأ له أمامه ومباشرة أبيات قصيدته ،فيحزن لحزنه ويتأثر بتغير النبرات الصوتية حسب كل حالة كان عليها الشاعر وينقلها إلينا الحوار الداخلي بالقصيدة.
(نائلة طاهر)
~~~~~
القصيدة :
(كلما نصنع فرصة للتوحد ونرتدي قمصان الماء
في خليج الحلم تبشرني السماء بالخمرة حتى
آخر العمر) ..
ضحكة المارثون
كان
الخوف وطني
والحزن وطني
والتيه المتجرع كأس الموت
وطنا آخر كان يأسرني؛
كنت
احمله في حقيبتي المدرسية
وأرسمه دولة عشق
بين ضلوعي الفتية ؛
وفي مسيرة الأيام الراجلة
اغسل مرقده من أوزارهم
وانزع ثياب حروبه المدماة؛
ومذ كنا صغارا
انا وهو والعصافير
من سلالة واحدة
كان شكلنا يغرق بالصحو
نحتل مساحات الاحلام
باعراس الفقراء
وملئ السنابل
نصنع من اجسادنا مآذن
ومن نهود الصبايا قبابا من فضة
يؤذن فيها راس الحلاج
ونصلي
وكل الصلاة عند بابنا
عافية وعشقا ومطر
وضيافة مفتوحة
نحتضن الكون والكبرياء
دون تكايا وبخور وولائم
ونضحك ضحكة المارثون
(بكرة وعشيا)
تفوح منا رائحة
القرى والندى ودخان التنانير؛؛
والآن هرمنا
ويجيئني مع الدمع الخوف المتمدن
قبالة وجعي
فصرت
بعيدا جدا
وانت في روحي
ينطفئ ضوؤك فاوقدني
اوقد دمي
كلما تشتهيني حروبك المسماة
ستجدني ان شاءالله
جنديا مجهولا
يعشق الموت سريعا وبليدا
ويحبس فحولته
ويحلم،كيف يرمم جسده سلما؛
ايها الثور المجنح
والهزبر في سماوات البارحة
متى،تسترد اساطيرك المستبدة؟
وانت الممتلئ بالكثافات محتدما
دمك يسيل
ويومك ذبيح
و(وجارك الجنب
والجار ذو القربى)
استنفروا آبائهم
ولوثتهم
واغتالوك في محرابك
وانت النبي
ضيعوك وصاروا بعض سراب
وبعض غبار ينث
كلهم مثل بعض
ذئاب مثل بعض،
اراقوا دمائك واغتالوا النسل؛
وانا والضياع
سيدي
ضياعك ولوعتي
اتساقط كل يوم
مذبوحا مطعونا مشنوقا
بسيوف الامويين
ورماح العباسيين
وحبال التتر المفزوعيين؛؛
وانت كما تشاء من المواجع
تهب الدنيا
خبزا وبسالة
وحزنا دافئا
وقصيدة تموت على جبين
الشاعر!!!؟؟
جاسم السلمان/بغداد1/8/2017
التعليقات
غازي احمد أبو طبيخ الموسوي
~~~
آفاق نقديه تقدير بالغ لهذه المطالعة النقدية البارعة استاذه نائلة طاهر الفاضله..بارك الله جهدك الكريم،وسلاما ايها الشاعر الكبير،اخي الاستاذ Gassim AL-Salman المبدع..تحياتي واعتزازي..
نائلة طاهر شكرا أستاذنا .
علي.ابو.ضحئ الجعفري دراسة نقدية. ممتعة.
نائلة طاهر شكرا شاعرنا القدير علي أبو ضحى
سعيدة دائما بتدخلاتك
احمد الشبليسعيدة دائما بتدخلاتك
Ahmad Alsheble دراسة رائعة وابحار عميق في النص وتجلياته والتنويه الجميل وهو محق جدا أن هناك شعراء عرب أخذوا قصيدة النثر الى بعد آخر وكتبوا نصوص أجمل من الآباء الشرعيين لها في أوربا وأنا أعتقد أننا يجب أن نتوقف عن المقارنة لأن قصيدة النثر أصبحت لها حضورها الطاغي وأثبتت نفسها كجنس أدبي متميز وهناك تجارب كثيرة ومتميزة ومتنوعة لا أريد أن أذكر أسماء سيطول بنا المقام شكرا لقلمك المبدع سيدتي .
نائلة طاهر يسعدني رأيك أديبنا القدير الذي اعلم انه عن معرفة،فقط أديبنا لا يمكن أن تتوقف المقارنات لان الأدب المقارن مادة علمية تدرس في الجامعات والهدف منها أورده باختصار شديد على لسان الأستاذ الجامعي و الناقد الأمريكي هنري ريماك : "الأدب المقارن هو دراسة الأدب خلف حدود بلد معين"
تقديري الكبير لحضورك
تقديري الكبير لحضورك
وسام الاحمد شاعرة الياسمين بعتقادي أن الشاعر يبدع في رسم مصابه او احساسة بطريقة بارعه يصل بها الى الصميم الروحي ويجعل القارىء يستشعر ادق واصغر التفاصيل بل ويرى ذرات الوجد والنبض والوهم والحقيقه بصور متفردة جميلة كانت او قبيحة وكذلك العزيزة نائلة وصلت بنا لنهايات الحرف والوان الطيف فسهلت علينا فهم روح القصيد....
لكما كل تقدير...
ومساؤكما هدوء
لكما كل تقدير...
ومساؤكما هدوء
~~~
نائلة طاهر الله عليك يا وسام اختزلت كل ما يمكن أن يقال بطريقتك الخاصة والرقيقة جدا .عسلْ حبيبتي
جاسم السلمان
Jassim Alsalman الطاهرة نائلة مودتي وتقديري لهذا الجهد البالغ الثراء وهذه الموسوعة النقدية المتالقة والمتأنقة .. يقول الحلاج رأيت طيرا من طيور الصوفية عليه جناحان،وانكر شأني حين بقى على الطيران،فسألني عن الصفاء،فقلت له اقطع جناحك بمقارض الفناء والافلاتتبعني،فقال بجناح اطير فقلت له ويحك ليس كمثله شئ وهوالسميع البصير(فوقف يومئذ في بحر الفهم وغرف) وهكذا انت تغرفين وتغدقين وتمدين القارئ بأس الاستقرار الذي يهدئ الانفس ويوسع من حوله جنة الانتظار التي شكلت مشهد القاءالقبض على الحقيقة وغسلها بالمسك كعادتك واعطائها ملكة المتانة واستطاعة الدخول الى عواملها الحسية وترسباتها النفسية ..
هذه المخبؤات نفيسةولاشك ان الاستاذة نائلة توغلت حد العمق والمكنون واطعمتنا زادا وغموسا كامل الدسم وحد الاشباع بدءا من مجسات الخيال وارهاصاته وسطوته،لاجل ان يكون هكذا تفاعل لتزداد حصيلة فهم المتلقي والظفر بالكثير من اللذة ربما التذكر على استعادة التجربة التي ترسخ المضمون الفكري للنص الشعري الذي كثيرا مايقترب من سطورالقصيدة ويشطر اضوائها وتغص باثداء فرحها كما يغص الناي بوجعه وتصدح المواويل وتورق الاغاني كالرياحين .. شكر معمق سيدتي الفاضلة وكل الممنونية لهذا الجهد الرائع ..تحياتي
هذه المخبؤات نفيسةولاشك ان الاستاذة نائلة توغلت حد العمق والمكنون واطعمتنا زادا وغموسا كامل الدسم وحد الاشباع بدءا من مجسات الخيال وارهاصاته وسطوته،لاجل ان يكون هكذا تفاعل لتزداد حصيلة فهم المتلقي والظفر بالكثير من اللذة ربما التذكر على استعادة التجربة التي ترسخ المضمون الفكري للنص الشعري الذي كثيرا مايقترب من سطورالقصيدة ويشطر اضوائها وتغص باثداء فرحها كما يغص الناي بوجعه وتصدح المواويل وتورق الاغاني كالرياحين .. شكر معمق سيدتي الفاضلة وكل الممنونية لهذا الجهد الرائع ..تحياتي
غسان الحجاج قراءة متكاملة تليق بهذا النص الكبير الذي كلما قرأته وجدته جديداً كجلبلب احزان الوطن الذي لا يبلى ابدا .. الحزن هو محبرةٌ قلمها سرمدي الكلمات لشاعرٍ يتماهى انتشاءً بسكرته الصوفية ليرى مالا يراه غيره من جواهر مخبأة في الاشياء كما اوضحتْ لنا الاديبة الشاعرة نائلة طاهر باسلوبها الفكري المنطقي الذي اماط اللثام عن تداعيات النص لتوافينا بكشوفات جوهرية عن فلسفة الشاعر الحزين... كل التحايا لهذه الاثراءات الادبية والسلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق