الجمعة، 11 أغسطس 2017


الأديب الناقد مصطفى النجار :العراق 
                            يكتب ▪▪



قراءات نقدية في اعمال الشاعر غازي ابو طبيخ ..
تمهيد ...
(( لا اظن أن احداً من المبدعين في هذا العالم المترامي , يستطيع الجزم بأنه خارج عن ضغط المرحلة التاريخية المحيطة به ...)).*
لعل هذه العبارة اكثر ما لفت انتباهي وشدّني بقوة لقراءة اشعار السيد غازي ابو طبيخ عندما كنت في  الخامسة والعشرين من عمري , كما  انني  لازالت الى الان  في طور  اكتشاف تلك المحطة من تاريخ الشاعر , او قل  انها مركز اهتمامي في اعماله الشعرية .
ليس ثمةَ ما يستوقف اي مبدع في هذا العالم المترامي الاطراف  اكثر من تداعيات  المحطة التاريخية المحيطة به , جلهم اذا لم يكن كلهم توقفوا في هذه المحطة ,  منهم من حاول ان يصنع تاريخاً خاصا به كماركس مثلا ومنهم من اخترع فكرة التاريخ اختراعاً كفوكو مثلا , حيث حاول ان يهرب من محطته التاريخية من خلال ما اسماه  الجينالوجيا , ذلك الوهمي البنفسجي اللون الذي اسكر فرنسا لفترة طويلة وربما الى اليوم .
ان التاريخ – المحطة التاريخية - نقطة الانطلاق التاريخي – سمها ما شئت – ان هذه النقطة هاجس مخيف يرتع بدفائن نفوس المبدعين , لأنه بالضرورة  مجس حضاري مهم لكل مبدع , من انا - ما الذي علي فعله - ومن ماذا انطلق - والى اين انتهي  - وما هي الجدوى ,  وبحسب فهمي  طبعا  ان كل من لم يجد تلك التساؤلات حاضرة في ذاكرته او قل في مفكرته – هكذا اصح , عند الاقدام على هذه الالة الثقافية الخطرة  فانه يلتاط بالادب التياطاً  ولن يدخل عالمه الواعي  فيكون مصداقا لقوله تعالى ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) وتنتهي رحلته في اول مطبات الاكتشاف والله اعلم في ايٍ من تلك المطبات الكثيرة   ؟.
يؤرخ لنا الفكر الديني اسس الانطلاق التاريخية بشكل جيد وواضح , ليس لأنه متصل بالله , بل لأنه موضوعي الى درجة ان يعطينا الجدوى في التفكير – التفكير المنتج للوعي , لأنه بالضرورة  يمنحنا مشروعاً يمتلك عناصر التفكير المشترك بين ابناء النوع البشري بمختلف ثقافاتهم وتوجهاتهم , أن هذه النقطة  بالتحديد , الانطلاق والجدوى منه , هو ما يعطي للعمل وجودا موضوعيا او موضوعانيا كما يعبر الماركسيون , هذا الذي نجح ماركس في توظيفه ايما نجاح  كما اشرت آنفا , انه استبدل المفكرة التاريخية العجوز ببواعث النهضة من جديد   ولكن على طريقته الخاصة .
ان ماركس استطاع ان يخلق تاريخاً لأوربا من اجل ان يعطيهم جدوى للانطلاق ,  ولولا ذلك لما تحرك عودٌ على شجرة كما نعبر, فهيجل لم يورث اوربا سوف فسلفة متهرلة – ميته – لن تنبض فيها الحياة لولم تكن فيها  نطفة الديالكتيك , لأننا – ومازلنا نتحدث عن نقطة الانطلاق – فان هذا يعني ان هناك مشروعاً , وبما ان هناك مشروع فمن البديهي ان يكون مخططاً له , وهذا يعني حركة واعية وهادفة و منتجة , وهذا ما يعطي لنا  ايضا واقعاً معياريا للحركة  العلمية والفنية او قل الابداعية  بعمومها (مع انني اتحفظ على كلمة الابداع وأفضل ان اطلق عليها اكتشاف) اي انها تمنحنا مرجعية  واضحة لكل ما ننجزه من اعمال على سطح هذا الكوكب , فحتى الاصوات لها شغل كما يقول شكسبير في رائعته الملك لير ( فليس الاصوات الخفيفة بخاوية القلب ما لم تضج عن فراغ) هذا الفارغ القاتل , هو ما جعلنا نستشعر ضاغط المرحلة التاريخية , ان هذا الضاغط يخبرنا بكل صراحة وربما بصبر كبير ان علينا ان نحدد الهدف او قل لنوجد هدفاً نتحرك بفلكه بدلا ان نحوم في واقع سيكولوجي مفرغ من نقاط الدلاله كذلك الذي اخترعه دريدا ليتخلص من الميتافيزيقيا  , حتى اننا بتنا لا نعرف انحن من يستنطق الكلام ام ان الكلام يستنطقنا ؟.
الشاعر غازي ابو طبيخ يحاول بكل صبر ان يعطينا جملة من النماذج عن الاتحاد الكوني بين الله والانسان , انه يحاول ان يصيغ لنا في هذه الباكورة من اعماله ما قد اكتشفته الروح النقية والتي اطلق عليها في كتاباتي ( الذاتية النقية ) من حجم لهذا الكون  المعجز وحجم مشروعه  العظيم ( الانسان الرب ) او ( الموكشا) بحسب الفكر الفلسفي الهندوسي .
ان تلك القدرة الاستكشافية على استنطاق الترابط الكوني قلما يتم العثور عليها في عالم الادب , لأنها تنتج في حواضن خاصة قادرة على خلق عناصر الترميز والدلالة بشكل قابل للاستهلاك في متاجر التفكير  الادبي المشترك.
ان اكثر ما قتل الموهبة – الموهبة البشرية عموما – انها غير قادرة على امتلاك لغة عمومية – لغةً غنية بعناصر التفكير المشترك , هذا ما نسميه في مباحث الفلسفة المعمقة –  بخاصية الارتباط  بالفلك الفعال , وياله من فلك عظيم .
في هذه المحطة الادبية , سوف  احاول ان اعيد صياغة الرسالة الادبية كما اعرفها انا لا كما هي معروفة , محاولاً ان اعطيها هدفا تنسال من خلاله  بعذوبتها المعروفة داخل عالم الواقع بعد ان أعتاشت على التغريب منذ نهاية  نهاية  عصر التبيلغ المسيحي وتحول  الادبي العالمي الى بديل روحي لتلك الامة المستضعفة المحرومة ( اوربا العجوز )  لعلها تنتج لنا عملا يساهم ببناء الحضارة البشرية في هذه البقاع الظمئة لعلنا نترع من مناهلها من جديد , لعلنا  نتمكن مرة اخرى ان ( نحيل احجار هذا الكون انهارا )( 2)
تنظيم إبراهيم النجار
والله ولي التوفيق 
------
• مجموعة اشعار لوامع الكهف والرقيم ص 7 .
(2) نفس المصدر اعلاه .

قراءات نقدية في اعمال الشاعر غازي ابو طبيخ ..
..1...
العنصر الكوني ..
ما الذي نعنيه من العنصر الكوني في الفكر وكيف يتم اعماله ؟.
يقصد بالعنصر الكوني مجموع الروابط الكونية التي تشكل بمجموعها الوحدة الكونية , الوحدة بمعناه المادي تارة والمعنوي تارة اخرى , وهذا ما يطلق عليه المناطقة الكل والجزء , فالكون وحدة مترابطة قانونيا من حيث البناء المادي ومعنوياً من حيث البناء المفاهيمي , وان اعمال العناصر الكونية في اي مادة معرفية يحتاج الى الوصول الى خيط من خيوط تلك الشبكة العملاقة والوقوف عليه خارجاً بما يتناسب والقدرة على الدلالة عليه عند اعماله على النحو الذي يتناسب مع المفكرة البشرية الاعتيادية او التخصصيه ووعيها لنتائج هذه الظاهرة .
من تلك العناصر المعنوية هي الجدوى , فكل ٌ منا يسأل عن جدوى وجوده على سطح هذا الكوكب , منا من اكتفى ببعض الاجابات المرقعة ومنا من لازال يحوم حول تلك البوابات المعرفية . فالفكر الديني يخبرنا بان الاصل هو العبادة-  ليست هذه العبادة التي نعرفها طبعا من الفقهاء , بل هي المعرفة ( حصراً) وهي ليست المعرفة الصوفية كما يصطلح عليها , بل هي معرفة اسس هذه الحضارة التي شاءت السماء ان توجدها على سطح هذا الكوكب اهدافها-  مسارات التاريخية  – مشروعها بلحاظ الكون كونها جزءٌ منه – والى آخره .
  والانسان كما هو معروف  هو من عهدت به هذه المهمة  وهذا الاخير هو ما يطلق عليه الطبيعة فلسفياً فتأمل هذا لطفاً .. 
لنسمع هذا ..
(( سألته عن الجدوى قال ...
أن سر الجمال الحقيقي يكمن في الطبيعة البكر وان سر الجاذبية فيه يتجلى في الانبهار الذي يوحد بين الخليقة )) (1) .
الطبيعة البكر , - الجاذبية – الانبهار .. هذا ما نسميه اعمال العنصر الكوني في النص . اي نص فلسفيا كان او فكريا ثقافيا او دينيا  وهذا  ما يعطي للنص صبغة كونية وليس غيره فتأمل لطفا..  وهذا لا يتم الا بعد اعماله بشكل واعي بحيث اذا تم استنطاقه كان قادراً على ربط المستنطِق بالواقع وليس بالفلك السيكولوجي الخاص بالمكتشف  .
الطبيعة البكر ..
كم هي نسبة الاكتشاف الذاتي الذي حققته البشرية تجاه ماهيتها , اي تجاه ما عرفت من خصائصها الذاتية – مالذي تحب – ما الذي تكره – لماذا تحب – لماذا تكره – ما قيمة ما عرفته – ما هو حجمه – ما هي نوعيته – ما كمية ما تبقى – وما هي نسبته بلحاظ الذي تعرفت عليه – وما الذي يجب ان نفعله كي نعرف ما تبقى وبأي طريقة – وكم نحتاج من مدة والخ ..
ان البكورية تعني بالضورة الفطرة البشرية - التكوين البشري - الصيرورة الاولى قبل التجربة  بحسب الخلقة او ( الدزاين ) كما يسميه هيدغر , اي ما نحن عليه بحسب الواقع وليس بحسب الخارج , فهناك فرق كبير بين عالم الخارج وعالم الواقع , الواقع هو حقيقة الشيء التي لن تتغير ابداً والخارج هو ما عليه الشيء الان بشرط البيئة وتأثيرها من جهة ووعيه للبيئة من جهة اخرى فقط ليس الإ ..
ان هذا العالم الواسع – عالم الذات هو ما اطلق عليه الطبيعة البكر – ياله من وصف فلسفي محكم ودقيق , وهو اهم عنصر في العناصر الكونية – حيث انه مرتبط بالالة الوحيدة المفكرة على سطح هذا الكوكب , فبقدر ما نعرف من هذا العالم - بقدر ما نفتض من بكارات خصائصه تفتح نافذة معرفية خارجية على خصائص الكون الام,  الذي يحتضن جزءنا البشري صفةً ومشروعاً .
الجاذبية – كان ايقاع عنصر الجاذبية بين هذه الاسطر عملا عبقريا ينم عن معرفة بخريطة المركب الكوني , ليس على سعتها , طبعا لا - بل بحسب العينة التي اقتفتها مفكرته بلحاظ ( عامل النقاء الذاتي ) وما اعنيه بالنقاء الذاتي هو انحياز الفكر عقليا بعد التخلص من دائرة التشويش الغرائزي وهذا ما يقع جزءيا في الغالب ومرحلياً.
الجاذبية هي ما يمنحنا واقعية الترابط الكوني شعوريا , ان هذا الانجذاب بين الجنس البشري ( الذكر والانثى ) ليس انجذابا جنسيا شهويا , بل هو ارتباط كوني يقع بين الاقرب فالاقرب من ذات الجنس مهويا , ان هذا الرابط – الجاذبية كما سماه شاعرنا – ليس عفوياً – ان له جذورا فلسفية مهمة لا يقع بحثها هنا بقدر ما يمكن التنويه عنها حفاظا على التعريف بالاكتشاف موضوع البحث ليس إلا .
هذا الذي يبررنا لنا انجذابنا الى الاشياء المحيطة بنا بيئيا , وعلى نحو الاجمال الانجذاب الى الطبيعة الخارجية كلما ازدادت جمالا وانتظاما , خصوصا اذا كان انتظاما طبيعيا غير مصطنعا .
الانبهار ..
الانبهار صفة لما يقع عليه الوصف لحاظيا بدقة عالية , الدقة التي يتفق عليها المركب الداخلي ( العقلي والنفسي ) وكلما كان التقارب بينهما اكثر في التوصيف والفهم , كان الانبهار اكثر , ان الانبهار فرع الاكتشاف , الاكتشاف بعنوانه الكوني , اي ان يكون الاكتشاف منطلقا من هذه الخلفية التي تكلمنا عنها , تارة يمكن ان يلاحظ هذا الانبهار او قل يلتفت اليه بلحاظ تلك العناصر وتارة يمر مرة السحاب كما يعبرون – وهذا الاول لا يحصل الا للملتفين وعيا – اي القادرين على توظيف تلك المعرفة بلحاظ آني , كما سوف نسمع في مبحث التوظيف .
يتبع ..
--------
(1) قراء في سفر التكوين ص 33
------

فاصل انتقالي ..
قبل البدء بمباحث  التوظيف  بحسب ما خطط له  , كان بودي اعطاء نبذة مختصرة وتعريف بعض الحيثيات ذات الصلة فيما يخص هذه  المحاولة و التي تهدف  لأستبدال الارضية القديمة للتفكير الادبي ومنحه صفة الموضوعية التاريخية بعد هذه الانتقالة الكبيرة التي حدثت في هذا المستوى من التفكير البشري والتي رفعت  سقف المباحثة الادبية من الميدان التربوي الى عالم الترف الترميزي  قبل ان يحين اوانه .
اقول ..
ان ما تقدم من مباحث وان كانت الصبغة التنظيرية طاغية عليها  وهذا ما لا يخفى على سليقة المختص , الإ انها في نفس الوقت كانت مدعمة بدليل حي لتجربة استكشافية ابداعية لأحد ارباب هذا الصنف من الفنون البشرية المهمة , وقد يحلو للبعض تسمية هذا الصنف من الاشعار – بالشعر الصوفي – وفي الحقيقة هذا التصنيف من اخطر التصانيف المفاهيمية التي لحقت بالآلة الادبية  العربية  عند بزوغ فجر الادب الوجودي , حيث انها حاولت ان تصنف الادب من اجل تدعيم ظاهرة  الفصل المفاهمي بين  ما يسمى ( الصيرورة التاريخية الذاتية ) وتداعيات ميتافيزيقا التاريخ على التفكير البشري , المهم ان الادب  العربي الحديث وخصوصا بعد دخول القصيدة النثرية بلمستها  الغربية  استطاع ان يفصل بين الظاهرة  المكتشفه ويصنفها دعما لقاعدة  الظاهرة المستقلة . كونها تستمد وجودها من رئة تاريخية  ذاتية منفصلة عن السياقات الكونية .
وقد نجح في ذلك ايما نجاح .
 وحيث يرى الاخوة القراء اننا قد اقمنا ما يمكن اقامته من دليل على هذا الايجاز الذي نحن فيه  , من ان عموم الظاهرة الاستكشافية البشرية انما لا تقرأ بصيغ او انساق تاريخية منفصلة , بل تؤخذ بلحاظ مشروع كوني , واذن فان كل ظاهرة أدبية  احترافية  او مبتدئة انما هي مظهر من مظاهر التجلي المعرفي , او قل استشرافا لتلك الشبكة الكونية الضخمة من العلاقات -  من جهة الناقد وموضوع النقد .
ثم اني ذكرت هناك , ان  تجربة القراءة التاريخية ليست فقط وليدة رحم ديني , بل كانت ايضا من بنات افكار الاطروحة الماركسية   وهذا ما  يبرر  اهتمام الكادر التنظيري والفكري في مدرسة  السيد محمد صادق الصدر  خصوصا بهذه الظاهرة الفكرية الواعية  بقضها وقضيضها  كما يعبرون من اجل ايضاح الفكرة  الدينية ذات الصلة انطلاقا من مبدأ المنهجة الحديثة    .
ولا يخفى ايضا من انني  قد اشرت في  مقدمة هذه المباحث التي لا اعلم كم ستطول مدتها , من انني اعطيت لمحة موجزة على اهم ثلاث ركائز لأي مشروع فكري , وهي العنصر والمثال والحركة , وقلنا هناك ان كل فكرة انما لا تكون مثمرة وقابله للتقدم اذا لم تكن على لوح المعايرة التاريخي , وبما ان لكل معايرة مرجعية صار من المفروض  ان يكون هناك هدف ,  ونقطة انطلاق , ولابد ان يحظى الهدف بمثال ما   كمرجعية للمعايرة , والخ ...
وهذا انما يمثل بحسب فهمي صورة واضحة لما نفهمه نحن في المدرسة الانفة الذكر من المشروع الكوني او الغرض من الخلق وغيرها , وبالرغم من دراستي لغالبية الفلسفات الاوربية ذات الصلة الا انني انطلق من اسس اسلامية  كما هو واضح , وهذه النقطة  قد تشكل احراجاً او عقبة امام تقبل هذا النوع من الطرح على اعتبار ما نال هذه الاطروحة من فشل تاريخي على مستوى التطبيق ولو انني اربأ بهذه العقليات النخبوية النزول الى هذا المستوى من التفكير ,  لأننا انما نأخذ  أي فكرة مشروع بلحاظ قانوني لا بلحاظ تطبيقي , والا لو انطلقنا من الفشل التطبيقي في التقييم لما وجدنا على هذا الكون مشروعا قابلاً للمباحثة او يستحق الدارسة , فكل  هذه المشاريع التي نراها اليوم انما تتغير بمجرد خروجها من لوح الرسم الى عالم التطبيق جذريا , ولعل التجربة الاسلامية قد حظيت بفرصة   تطبيقية في بداية نشوءها , تلك الفرصة اعطتها القدرة على الثبات امام المعايرة التاريخية  , الا اننا وفي هذا المستوى الذي نتحدث فيه لا يهمنا بالضرورة ان  ننطلق من تلك التجربة مع انني من انصار هذا النسق النقدي , بل ان نفكر في فهم طرق المعايرة القانونية  من حيث الدقة والتوظيف والاشتغال والشمول  لذا اقتضى  التنويه .


عنصر التوظيف 
في أعمال الشاعر غازي ابو طبيخ  ..
التوظيف الانتولوجي ( الانطولوجي )
ما هو عنصر التوظيف ...؟
يقصد بعنصر التوظيف  كما يفهم اصولياً   مجموع الوظيفة الدلالية في النص ,  وهذه الوظيفة تنقسم الى عدة اقسام اهمها قوة التوظيف الاصطلاحي والإيقاع الخطابي .
ويقصد بالأول :  انتقاء اللفظ  بلحاظ الدلالة البلاغية  للمعنى ..
ويقصد بالثاني : انسيابية الخطاب بحسب تفعيلة اللغة العربية ,  أي الارتحال السلس لسانياً داخل النص . وهذه الثانية مما يعز وجوده كثيرا هذه الايام نتيجة لهجر اللغة الفصحى والاتكاء على الدارجة , حتى عند كاتب هذه الكلمات .
 وهذه  الجهة الاكاديمية للتوظيف كما يعبر ..
لكنني لا اتناول النقد هنا من زاوية ادبية بحتةٍ كما يعبرون , فلا استطيع اضافة ما هو جديد خصوصا بوجود اساتذة اكفاء  ومتخصصين في ذلك الميدان , ولذا فان ما احاول القيام به هو النقد الفلسفي التحليلي للنص الادبي من اجل ان  ادفع به الروح بطريقة اخرى , اذا لعل هذه الطريقة اذا تم اعمالها مستقبلا ستكون جسراً  لارتحاله من الخواص الى العامة  مجدداً كما كان في  السابق ايام المعلقات  , عندما كان الادب  جزءاً من الخطابة اليومية , الخطابة بمعنى الخطاب التقليدي  العام .
وهذا قد يجعل منه أداة اكثر فاعلية في انضاج المستوى المعرفي وترسيخ المادة على مستوى الملكة اجتماعيا  وبحسب  المشروع الكوني , وهذا ما اسعى اليه بل ما سوف ابذل له كل ما يمكنني الله من قدرة   .
..أ...
اصل الوجود ..
قال الفلاسفة المسلمون  عند مناقشة الشق الانتولوجي بمعزل عن الدلالة الدينية , ان الضرورة العقلية الحاكمة على مجريات البرهان الواضح تقول , بان الكون  بهذا الانتظام وهذه الدقة العجيبة يجب ان يكون من صنع صانع ويستحيل ان يأتي من تلقاء نفسه , على اعتبار  ان احتمالية حصول هذه النسب الدقيقة في المنظومة القانونية للكون لا تمثل الا واحد من مليار تقريبا من حيث نسبة النجاح وفق منهج حساب الاحتمالات , وأطلقوا على هذا البرهان الدقيق برهان النظم الكونية , واحد امثلة هذا البرهان هو نسبة شعاع الشمس الداخل من الغلاف الجوي الى الكرة الارضية ونسبة الاوكسيجين في الهواء والنيتروجين والكاربون وعلاقتهما بالاستقرار البيئي  وغيرها .
وقالوا ايضا ببرهان الدور واثبتوا استحالته – وقالوا ببرهان التسلسل  , اذا لابد لتسلسل العلل من نقطة ينطلق منها وهذه المباحث فلسفية كلامية  .
وهناك العديد من البراهين  المبحوثة في العقائد الاسلامية , وهم بهذا اثبتوا ان للكون صانعا , وان هذا الصانع مدبر وحكيم وواعي لما يفعل جل جلاله ومن خلال ذلك صيغت البنية النظرية للمشروع الالهي في القرن  الماضي مدنياً على يد منظرو المدرسة الصدرية كما يطلق عليها   .
 وقدر أشر  المفكر السيد محمد الصدر  في كتابه اليوم الموعود بين الفكر المادي والديني كامل المبحث  الفلسفي والانثروبيلوجي للخليقة منذ بداية الخلق وانتهاءً  بظهور المنقذ بحسب العقيدة الاسلامية , كما ان الكتاب احتوى على كامل الحلقة النقاشية بين الفكر المادي المتمثل بالماركسية من جهة والفكر الديني المتمثل بأطروحته الموسومة بالتخطيط الالهي للكون   , وقد اعتنى كثيرا بمناقشة هذه الاطروحة على مستوى اعلى وأدق من سلفه محمد باقر الصدر , على اعتبار ان الماركسية اول اطروحة   مادية وربما اخيرها ممن استطاع ان يخرج من جبة الظاهرة البشرية المستقلة الى مستوى المشروع الكوني , وهذا يعني تطور الوعي الفلسفي البشري الى مستوى عالي جداً بلحاظ المشروع الكوني الذي يتنباه المفكرون الاسلاميون , حيث انه يرى ان المشروع الكوني يبدأ من نقطة الخلق الاولى ولتكن ( البك بان مثلا ) وتنتهي عند اخر حلقة من حلقات التربية البشرية في زمن المنقذ كما يؤمن به المسلمون  وهذا كله بلحاظ الغرض الالهي من الخلق .
وقالت الماركسية بطفرة الكون , وقد حاول الجهاز التنظيري الماركسي التخلص من تبعات هذا الاقرار إلا انه لم يستطع ذلك حتى في الجيل  الثاني من المنظرين ( تروتسكي وبليخانوف ولينين وغيرهم )  وهذا لا يعني انهم لم يكونوا قادرين على ايجاد البديل النوعي – طبعا لا , بل لأنهم  احكموا انفسهم بقاعدة الديالكتيك , وهذه القاعدة لا تعمل إلا على المركبات في حين ان الماورائيات من عالم البسيط , والفرق بين الاثنين ان المركب ينتج لنا ديالكتيكا تطورية , اما عالم البسيط فمتكون من عنصر واحد , فكان هذا  من اهم اسباب عدائهم المشهور للمثاليين القائلين بالميتافيزيقيا حتى من كان يميل الى هذا الاعتقاد ولوهمسا , كبليخانوف مثلا .
ومثاله ..
لنأخذ مثلا قانون الجاذبية , ان هذا القانون قد تم اعماله لدى مهندسي العصر  الاكدي والبابلي , الا انهم لم يكون يسمونه ( الجاذبية او الكرافيتي ) بل انه حصل على هذا الاسم اشتقاقاً من ظهوره الخارجي على المادة , كما انه – لاحظ عزيزي القاريء – غير ظاهر خارجا إلا بآثاره على المادة المركبة ( القلم والموبايل والإنسان وغيره )  وحينها اذا اردنا الانتقال لتعليل او كشف الحركة التاريخية او ( التاريخانية ) للوجود انما يجب ان نحلل كل مفاصله على اعتبار انه مشروع , كما فهمه الماركسيون ويعتقد المسلمون , فكيف نستطيع اعمال الاثر المارورائي اذا كنا لا نعترف به بالأصل او قل نتعامل مع آثاره فقط  , لأننا انما نبرر الحركة التاريخية كماركسيين وتطورها بدلالة قانونية , وهذا الدلالة التي ننطلق منها انما هي واقعه بلحاظ آثارها وليس بلحاظ نفسها , اليس من المتوقع ان يتطور القانون الكوني كالجاذبية او يتوقف عن العمل , هذا  اذا كنا نتعامل معه بنفس الصيغ المركبة أي ( ديالكتيكياً ), فكيف نستطيع دراسة تأثيره على الوجود اذا كان مجهول الهوية ذاتاً وكيف نستطيع ان نعطيه دوراً ثابتا بلحاظ المشروع  او قل إعماله كما  احاول انا اليوم صياغة دور الادب بطريقة مختلفة ؟.
طبعا حاول الماركسيون ايجاد حلول لهذه الاشكالية ولم تفلح امام النقد المحترف ,لأن هذه الاشكالية كانت ولا تزال من اكبر العقبات امام أي فكر تنظيري بهذا الاتجاه .. وللملاحظة – يصطلح  على القوانين الطبيعية لدى المدارس الاسلامية العرفانية بمصطلح ( العقل الساري في الوجود ) .
واما الوجودية فلم تناقش ما قبل الكينونة واكتفت بصياغة الانسان على اساس الظاهرة المستقلة , أي التحول التاريخي الاطرادي بين الانسان والتاريخ ,  وسبب هذا هو ايضاً الهروب من عقدة الميتافيزيقا , لأن الوجودية تبني اساسها النظري على الاصل التاريخي , وهذا ما دعى فوكو لاختراع الجينالوجيا , او  التناقل الوراثي التاريخي . لأن نفس المشكلة التي دعت هروب الماركسيين من  الميتافيزيقيا هي نفسها ما دعى الوجوديين الى ذلك وهي استحالة دراسة وفهم عالم البسائط  وآخرها محاولة لجاك دريدا والتي كتبت عنها فيما سبق وبينت هناك نقاط الضعف الكبيرة فيها من خلال دراسة نقدية لكتابه ( استراتيجية تفكيك الميتافيزيقيا  ).
إلا انهم وبالرغم من هذا حاولوا جاهدين تبرير وجود هذه البسائط وأثرها البالغ في الوجود المنظور لكن كل تلك المحاولات كانت تكريسا لمباحث عتيقة اكل عليها الدهر وشرب حتى انهم رجعوا الى الوجوديين الاوائل للبحث عن حل ولم يفلحوا بذلك  , الا ان هذا لا يعني عدم وجود لمعات لطيفة وذكية في هذه المفكرة العبقرية خصوصا عند نتيشه  وهيدغر , وان عبارة هيدغر الشهيرة ( الوجود هناك في هذا العالم ) خير دليل على ذلك , بل انها تصريح ضمني مهم حاول الوجوديون الجدد التخلص منه بعدة تأويلات ولم يفلحوا في ذلك .
لأننا اذا اردنا ان نناقش مفهوم البسيط – وهو بحسب  المنطق الفلسفي الاسلامي – المفهوم القانوني , سيكون من الصعب علينا  ان نناقشه خارج المركبات , لأن العقل البشري انما يقرأ خوارزميات الشكل تركيبيا ويفهمه على هذا الاساس  ويستحيل عليه ان يقرا العنصر الواحد بحسب آليته او ( الدزاين )  , لذا كان التواصل مع هذا الاله الذي يؤمن به المسلمون لا يتم الامن خلال الروح  على اعتبار ان الروح من سنخ البسيط , أي عنصر غير مركب , وهذه هي القصة باختصار ولمن اراد الاستزادة يراجع الكتاب اعلاه لأنه مخطوط بأيدي  تخصصية في هذه العلوم  وبالخصوص الدائرة السيكولوجية البشرية , مع العلم ان السيد لم يناقش الوجودية لأنه لا يعتبرها مذهب فلسفي بل مذهب ادبي وينتهي الخطاب كما فهمت منه  ضمناً .
....

اعمل الشاعر موضوع البحث الانتولوجي  على اكثر من شكل  على اعتبار انه ينطلق من ثلاث خواص  متعلقة بقراءة العناصر الكونية ..
الخصيصة الاولى – العقيدة – الثانية  التخصص  اللغوي  وما يلقي على النص من عمق بلاغي – الثالث الخلفية الفنية -  وتعني قراءة مسارات العقائد  خارج حدود العوالم الارضية الثلاثة الجسم والنفس والعقل .
وهذه الخصائص الثلاثة وفرت زخما كبيرا لقراءة النص الشعري خاصته من زاوية تحليلية فلسفية , إلا انه يختلف اكيداً عن نصوص  السيد محمد الصدر و الشيخ ابن عربي رحمه الله والشيخ الرومي  رحمه الله والحاج السبزواري وغيرهم  من علمائنا الكبار من حيث الافق النظري والمطاولة النفسية  , على اعتبار الاختلاف في قواعد النظر الى  تفرعات وحدود الظاهرة وإسقاطاتها الخارجية على ما سوف نسمع ..

لنسمع هذا ..
(( ما شرقت بالدمع إلا في محضر صلاتك القائمة 
صلاةٌ لا تعني بآلية الرسوم المتحركة 
بل تعني بتحويل الحدث من رئة القوة الى بانوراما الحياة )).
هناك ملاحظتين  رئيسيتين في هذا النص يجب الاشارة اليهما قبل الدخول في تفصيله ..
الاولى كلمة ( بالدمع ).
والثاني  تنوين الضم في (صلاةٌ) بحسب  النسخة التي بين يدي .
اما بالدمع فلا استطيع دمجها  مع النص بحسب  النسق الذي اعمل عليه ,   وإلا فسوف ينقلب السياق المعنوي للمقطع الشعري كله من الانتولوجيا  الكونية الى الدائرة الداخلية المصغرة , على اعتبار ان الباء جار للدمع فيكون الدمع واسطة للصيرورة  وهذا غير صحيح بل ومشكلة كبيرة على  المستوى العقدي ليس محل بحثها , على العموم هي مرتبطة بمباحث التعطيل ( نعوذ بالله ) , ولذلك سوف احاول ان اتخطاها واعتبرها جسرا للعبور من الخاص الى العام وننتهي , او نعملها عند قراءته ادبيا وهذا ممكن  .
وأما تنوين الضم  في كلمة (صلاة ) فيجب ان يكون للتنكير , أي تنوين فتح حتى يشمل عموم الظاهرة العبادية وليس الصلاة الفقهية وهذا هو الصحيح اكيداً , على اعتبار ان  الشاعر مسلم والإسلام يقول بأن كل تكليف شرعي انما هو عبادة سواءً كان مدنياً ( اجتماعيا – أداريا – فنياً ) او  عبادي محض كالصلاة والصيام والحج والزكاة ونحوها .
..
الاشراق في لغة الفلاسفة نوع من التجلي بين الخالق والمخلوق وبشكل آخر ايجاد الذات بالخالق فتأمل .....
ولذا  فيكون معنى المقطع ان لا وجود بدون صلة , وهذا ما يذهب اليه حكمائنا من  ان كل عمل غير متصل بالله فهو بحكم العدم فلسفيا  اعلى اعتبار  ان الحقيقة واحدة وكل ما يرتبط بها فهو حقيقي وما سواها فهو عدم بالمعنى الفلسفي , تماماً كما ننسب فعلا تطوريا لشيء غير ( الديالكتيك ) وهذا مستحيل بحسب الاطروحة الماركسية  ,  وانا قلت فيما سبق ان هذا الإعمال الشعري لا يمكن ان نجده في مكان آخر لهذه الخصوصيات الفريدة في التوصيف لاعتبارات شخصية  عند الكاتب .
لذا فأنه يثبت اصل وجوده من خلال الصلة فالصلاة ليست الا صلة , وبالمناسبة فأنا اقرأها دائماً بكسر الصاد لا فتحها من اجل انسيابية المعنى في ذهني .
وهذا التصريح ينقلنا الى الارتباط القائم بين العنصر و الشبكة الكونية كما مررنا عليها مسبقا , كما انه يعطينا نسق مفاهيمي  للانطلاق التاريخية للعنصر , حيث نسمعه يقول ( صلاةً لا تعني بالية الرسوم المتحركة – بل تعني بتحويل الحدث من رئة القوة الى بانوراما الحياة  )  وهو هنا ينطلق من ما ذهب اليه  الامام علي ابن ابي طالب عليه السلام  في قوله ( اتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبر )  بشكل واضح طبعا ..
ولكن ينبغي الالتفات الى كلمة ( الحدث ) الواردة في سياق المقطع , وما هو القصد من التحويل , لماذا ليس استخراجاً  ( بل تعني باستخراج الحدث من رئة .... الخ ).
هذا ما  سجلناه في مبحث سابق عن تطور الوعي البشري بلحاظ  تاريخي , عند التعرض  لخواص المبحث الانثروبيولوجي وضرورة  التخلص مما اسميته الترف الترميزي وهو بمعنى آخر( الشعر اللاحق على رتبة  وعي القائل  ) والذي سوف نفرد له بحثا مفصلا ان مكننا الله مستقبلاً.
وأذن فان خروج الحدث الكوني اياً كان شكله لعالم الواقع من رئة القوة تلك , انما تحولي وليس عياني الذات , أي يرتبط خروجه الى عالم الخارج بحجم الوعي الشخصي من جهة والتاريخي بحسب سياقاته , وهذا كله بلحاظ مشروع ما , ولذا اطلق عليه تحولا ولم يطلق عليه استخراجاً , ليوضح لنا ان الجوهر , جوهر الحدث الحقيقي ليس بالمتناول الطبيعي غالبا , بل انما يتم تحويله بصيغ مختلفة وكل بمقدار وعيه  لرئة القوة تلك  ووسائل النفاذ اليها .
لعل هذه اوضح   وابرز نقطة  لمحاكاة الظاهرة الانتولوجية في الكتاب الذي بين يدي ولعل ما سيطرحه علينا في المستقبل اكثر غناً وارسخ تجربة منه , والله ولي التوفيق .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق