الأربعاء، 3 يناير 2018

( الصدق الفني) - الحلقة الثانية - بقلم الاديب شاكر الخياط

الحلقة الثانية
من ( الصدق الفني)
أ.شاكر الخياط

ان المتتبع لمفهوم الصدق الفني سيواجه اكثر من تعريف يعتمد كل تعريف على ذائقة الناقد وتاريخه وميوله الفنية والادبية وربما دخلت ايضا ارتباطات اخرى قد تتحكم كذلك بهذا المفهوم، ولربما اكون مقاربا الحقيقة اكثر اذا اوضحت ان للصدق الفني مفهوما بعيد كل البعد عما يتم تداوله من قبل بعض العارفين بهذا الشان وهو الصدق بمعنى عكس الكذب، وللاسف نحن لسنا معنيين بما يدور في دواخل الكاتب( الشاعر) حين يكتب، ولسنا حكاما او سلاطين لتمييز هذا النص صادق او ذلك كاذبن مع امكانية وصول المبالغة والتخيل اعلى حالاته لكنها لاترتبط بالمفهوم المادي او المعنوي للكلمات انما المطلوب الصدق الفني الذي نعنيه والذي يخرج عن دائرة الفهم العام بين الصدق والكذب، وهذا بطبيعة وجود من يؤيد فكرة ان يكون اجمل الشعر اصدقه، او اجمل الشعر اكذبه، المفهوم الذي نحن بصدده هو ليس هذا ولا ذاك بالمطلق، نحن نريد ان ننظر لتقييم جديد اسمه ( الصدق الفني ) بعيدا عما اختلف فيه الاخرون قبلنا، فنحن لايمكننا ان نحكم على المتنبي في :
اتوك يجرون الحديد كأنهم .... سروا بجياد مالهن قوائم
اي صدق واي كذب سينطوي تحت عظمة هذه الكلمات؟!
انا ارى انه لا داعي حتى لذكر الصدق هنا او الكذب في هذه المفردات التي كانت ملقاة قبل هنيهة من ترتيبها من قبل المتنبي على قارعة الطريق الى ان سطرت كبيت شعر في قصيدة منتظمة لغرض معين معروف ليس هناك ضرورة لشرح ما يعرفه القاريء، في المفهوم التحليلي من وجهة نظر سايكولوجية متقدمة تحكم هذا الجزء ( البيت) من النص ( القصيدة)، ويكفينا مايمكن طرحه لهذا البيت تحديدا وسيغنينا بالتاكيد عن باقي القصيدة التي تعتبر من روائع الشعر العربي على الاطلاق...
لا اجانب الحقيقة اذا قلت انني اطلعت على مالايقل عن اربعين تحليلا ودراسة لقصيدة المتنبي تلك، ومن مختلف الجنسيات العربية ومن اكثر من مدرسة وانتماء فكري وميل ثقافي وايمانات معتقدية، كان الكل في تحليله واحد وكأن ما بدأ به على سبيل المثال الناقد او الدارس او الباحث الاول تبعه الجمع الاخر دون اضافة تدعو للانتباه او التمييز بان هذا التحليل ارقى او اعلى فنيا من الذي قبله او الذي سيليه، وهذا يؤكد حالة غير مرضية لنقودات كثيرة توضع تحت تصرف الدارسين لكنها تستنسخ نفسها سوى عن تغير اسم الكاتب عن غيره... لقد وقفت كثيرا عند كثير من التحاليلن ورايت ان ادلي برايي هنا انصاف مني لعظمة المتنبي واعطاء الصورة الصحيحة لتعريف الصدق الفني في الشعر الذي نحن بصدده
أَتَوْكَ يَجُرُّونَ الحَدِيدَ كأَنَّهُمْ ... سَرَوْا بِجِيادٍ مَا لُهنَّ قَوَائِمُ
ليس كما يقول البعض ان المتنبي كان يخاطب في هذا البيت سيف الدولة ويقول له مخبرا عن الروم بانهم اتوك لابسي الدروع
، ولبست خيلهم التجافيف، ومنهم – الرومان – من كان يغطي صدره وراسه بالحديد،فصاروا يجرون الحديد الذي عليهم، ويجرون التجافيف التي سترت قوائم خيلهم، ويشمل هذا انواع الاسلحة التي كانوا يحملون ، حتى كأنهم سروا بجياد لا قوائم لها، لكثرة ما تكلفوه من تشبث التجافيف بها. وربما اغفل النقاد مابعد هذا البيت الذي هو مرتبط بشكل وثيق مع البيت الذي قبله واستطيع ان اقول انه مكمل له وبه يتم الاخبار عما يريد المتنبي ان يقول، :
إذَا بَرَقُوا لَمْ تُعْرفِ البِيْضُ مِنْهُمُ ... ثِيَابُهُمُ من مِثْلِها والعَمَائِمُ
يقول النقاد والباحثون في هذا الموضع مامعناه : (إذا زحفت كتائب جميعهم، وبرقت أسلحة جيشهم، لم تعرف السيوف المصلتة بينهم؛ لأن عمائمهم البيض، والمغافير ثيابهم، وما يشمل خيلهم) وهم يشيرون الى ان الدروع والتجافيف، وكل ذلك يماثل السيوف، ولا يبعد عنها، ويشاكلها ولا ينفصل منها. ويؤكدون في مواضع عديدة على نفس الشرحاي بالوصف من كثرة سلاح هذا الجيش إلى قوته، وبما ذكره من هذه الهيبة إلى شدته.)
لقد فات الباحثون الذين تناولوا المتنبي هنا في هذه القصيدة بالذات انهم كانوا محددين في سياق اكاديمي بحت، امنحهم بهذا الحق لان من يدرِّس المادة اكاديميا غير مطلوب منه ان يبتعد بالتحليل اكثر الى فضاءات ربما خشية من ابتعاد الدارس عن حقيقة البحث العلمي وهنا تستجد لدينا وامامنا ظاهرة البحوث العلمية الاكاديمية التي وضعت في قوالب جاهزة تقريبا لا روح فيها...
اما وجهة نظري بصدد بيت المتنبي هذا:
اتوك يجرون الحديد كأنهم.... سروا بجياد مالهن قوائم
لنقف عند (اتوك) لماذا لم يقل ( جاؤوك) يشرح العارفين هذا الفرق في عدة شروح يشتركون جميعهم تقريبا في نفس الهدف لذلك ساقتنص ماذهب اليه الدكتور فاضل السامرائي هنا فيقول :
( القرآن الكريم يستعمل أتى لما هو أيسر من جاء، يعني المجيء فيه صعوبة بالنسبة لأتى ولذلك يكاد يكون هذا طابع عام في القرآن الكريم ولذلك لم يأت فعل جاء بالمضارع ولا فعل الأمر ولا اسم الفاعل. (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) مريم) الحمل سهل لكن ما جاءت به أمر عظيم . قال: (فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ (33) عبس) شديدة، (فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) النازعات) شديدة، (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) الغاشية) لم يقل أتتك الغاشية وإنما حديث الغاشية لكن هناك الصاخة جاءت والطامة جاءت. (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) النصر) هذا أمر عظيم هذا نصر لا يأتي بسهولة وإنما حروب ومعارك، (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) الإنسان) هذا نائم يمر عليه وهو لا يعلم، لم يكن شيئاً مذكوراً أي قبل وجوده لم يكن شيئاً مذكوراً قسم قال لم يكن شيئاً لا مذكوراً ولا غير مذكور وقسم قال كان شيئاً ولم يكن مذكوراً كان لا يزال طيناً لم تنفخ فيه الروح، ففي الحالتين لا يشعر بمرور الدهر فاستعمل أتى. في قوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ (1) النحل) وقوله (فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) غافر) هناك لم يأت بعد (أَتَى أَمْرُ اللّهِ) فلا تستعجلوه هو قَرُب، أتى يدل على الماضي أنه اقترب لم يصل بعد فلا تستعجلوه، (فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ) هنا الأمر واقع لأن فيه قضاء وخسران أي المجيئين أثقل؟ (فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ) أثقل، يصور مشهداً واقعاً أما في الآية الأولى لم يأت بعد ولم يقع بعد فمع الذي لم يأت بعد استعمل أتى ولما حصل ما وقع وما فيه من قضاء وخسران استعمل جاء. إذن الإتيان والمجيء بمعنى لكن الإتيان فيه سهولة ويسر أما المجيء ففيه صعوبة وشدة ويقولون السيل المار على وجهه يقال له أتيّ مرّ هكذا يأتي بدون حواجز لأنه سهل. (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ (17) النمل) ليس هنا حرب، (وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ (16) يوسف) هذه فيها قتل.
إذن هنالك فروق دلالية بين جميع كلمات العربية سواءا علمناها أو لم نعلمها. )
الكلمة الثانية ( سروا ) ولم يقل ( جروا او مشوا او ساروا) والسريان هنا له علاقة بمعنى اشمل يصل الى الجري او المشي او المسير دون المساس بالارض، اي الانتقال من مكان الى اخر انتقالا روحيا، فالمتنبي كان قريبا من تصوير منظر الاولى ( اتوك) التي وضحنا معناها بدلالة الثانية، لقد كان المتنبي يرى مالايراه الاخرون، كان المتنبي يرى غير مارأى النقاد في قولهم ان السيوف والدروع التي كانوا يغطون فيها اجسادهم وجيادهم اضافة الى السيوف كانت من الكثرة والتدجيج بحيث تكون قد غطت قوائم الخيل وهذا المعنى هو ابعد مايكون عن الحقيقة التي تكشفت للمتنبي الكشاف الخارق،، لقد كان المتنبي يريد القول ان الجياد التي كانت تحمل المقاتلين وسيوفهم ودروعهم والحديد الذي عليهم، تحولت جميعها الى قطعة حديدية كوحدة واحدة، واستخدم هنا (كأنهم) ولم يطلقها كحقيقة لكنه اراد ان يقول اني اراهم كأنهم هكذا، وان قوائم الخيل لم تكن تطأ الارض انما كانت ( تسري) من الاسراء اي بمعنى آخر اكثر دقة ان الجواد منها كان ممتد الراس باستقامة الجسد الممشوق والممتد كأن ليس له قوائم تمس الارض وذيل ممتد الى اخر الفضاء باستقامة الجسد وكانهم يشكلون صورة ( الطائرة) الان في وقتنا هذا، وليس كما يقول المحللون فيما سبق، هكذا كان يرى المتنبي الطائرة التي تطير امامنا بجسد واحد متماسك لو تخيلت وصف الجياد بحديدها وقارنتها مع بدن الطائرة لعرفت عظمة الرائي وعبقرية الذي اجاز لنفسه هو وحده ان يقول :
انام ملء جفوني عن شواردها... ويسهر الخلق جراها ويختصم
هذا هو الحلول في روح اخرى وفي زمن آخر، لايستطيعه اي كان الا من امتلك ادوات ومقومات ذلك الحلول، ولا اريد ان اذهب بعيدا فيما كان يفكر المتنبي وقت هذه القصيدة، انه كان يصرخ بالنصر الذي جاهد وكافح وتعذب من اجله، فهو يرى غير مانرى، وهو بقصيده هذا كان يعبر عن نصره هو لا نصر سيف الدولة بدلالة ماحققه سيف الدولة وجيشه، ولان مصطلح الصدق الفني ابعد من الصدق المادي المتعارف عليه في لغتنا العامة فهو إذا استخدم في الموضوعات العلمية والاكاديمية فدلالته تعني الوضوح والدقة والبعد عن المبالغة , و الخيال , لكنه في الأدب يحمل ظلالا أخرى , ورؤى غير التي نعرف، فكيف اذا كان في الشعر، فالأمر أوسع وأعمق , فالصدق الفني هو البلاغة, ومجيء الكلام بغير مايتوقع القاريء او السامع او المتابع او لنقل الانسان المتكلم العام من الناس
...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق