الأحد، 7 يناير 2018

الحلقة الثالثة من الصدق الفني (طاهر أبو فاشا ) مثالاً بقلم / الاديب الناقد شاكر الخياط

الحلقة الثالثة
من الصدق الفني،
(طاهر أبو فاشا)..
مثالا...
أ.شاكر الخياط
Shakir AL Khaiatt
------------------



كثير منا لم يتعرف على العديد من القامات الشعرية العالية الاعتبار ،ولكن الاضواء لم تسلط عليها بالشكل الصحيح، او لعدم توافر وسائل التواصل آنذاك على فترة نضوجها وبلوغها الاتقاد والابداع العالي، او لتسليط الضوء من قبل الاعلام في تلك الحقبة على شخصيات واحداث متعددة الغت الضوء او بصريح التعبير حجبت الضوء عن تلك الشخصيات التي انا بصددها، و ( طاهر ابو فاشا ) واحد من اولئك العمالقة الذين ظل فنهم ونتاجهم من ابداع فكري وادبي فني راق يخلد الى الان في آذان ونفوس من عرفهم او من عايشهم وعاصرهم، وانا هنا وايمانا مني بوحدة الهدف التي يسعى اليها كل محب للاخرين ومن يتمسك بمبدا ( أحب لاخيك كما تحب لنفسك)،
و( خير الناس من نفع الناس) فلم اجد مثل ( آفاق نقدية) مضيفا رحبا وساحة واسعة تجتمع على اديمها كل الطاقات وصولا الى الهدف الاسمى لي وللجميع بالتلاقح الثقافي الانساني الاشمل والجامع لنا نحن بني الانسان، وانا هنا ساهتم بالجانب الفني الادبي وربما ساميل الى الشعر، ليس بعدا عن باقي الفنون وهي محترمة ان شئت ام ابيت لكن الاعمال المطروحة في الساحة لايستوعبها ماتبقى لنا من سنين عمر نسال الله ان نختمها كما بدأناها ودأبنا عليها في خدمة الناس، اليوم ساتناول واحدا من الادباء الرائعين المبدعين، عرفته حين اطلق العنان لقلمه ان يقف بعد ان ابدع في عدد من الاعمال عرف على اثرها بين محبيه واهل محلته الى ان شاءت الاقدار ان يتراصف مع الجمع المبدع قلما يشار اليه بالبنان في مصر وبعض الاقطار العربية لدى طبقة العارفين والمتابعين والمهتمين بالشأن الادبي آنذاك،وقبل الخوض ساقتنص ما كتب عنه من اهل الدار فاهل مكة ادرى بشعابها، ولكي التزم امانتي في النقل ساورد هنا النصوص كما هي بقلم كتابها.
(( سوزان عاطف / الأربعاء 17-07-2013
طاهر ابو فاشا –
"راهب الليل" مؤلف "ألف ليلة" وقصائد "رابعة العدوية"
يحتل الشاعر طاهر أبو فاشا مكانة رفيعة بين الشعراء وكتاب الدراما، يذكره الناس من خلال الحلقات الشهيرة التى اعتادت الإذاعة المصرية تقديمها منذ ما يزيد على ربع قرن، بصوت زوزو نبيل المميز، وهى حلقات ألف ليلة وليلة، فضلا عن قصائده الصوفية التى شدت بها أم كلثوم فى الفيلم الشهير «رابعة العدوية».
كتب أبو فاشا للإذاعة الكثير من الأعمال، أشهرها «ألف ليلة وليلة» التى ألف منها 800 حلقة، على امتداد 26 سنة، وله مجموعة من الصور الغنائية، منها «ملاح النيل»، و«أصل الحكاية»، و«الشيخ مجاهد»، كما أعد سلسلة «أعياد الحصاد»، وهى سلسلة درامية غنائية تمثيلية، وكتب عملا دراميا غنائيا ضخما بعنوان «سميراميس» كان مقررًا أن تمثله أم كلثوم، لكنه توقف لأسباب مختلف عليها، كما قدم للإذاعة مسلسل «ألف يوم» فى 600 حلقة، وقدم مجموعة كبيرة من الأغانى منها «نشيد الجيش»، و«نشيد الطيران»، وغنتهما أم كلثوم.
ولطاهر أبو فاشا دواوين شعرية كثيرة، منها «صوت الشباب»، و«القيثارة السماوية»، و«الأشواك»، و«الليالى»، و«راهب الليل»، وقد ظل عنوان هذا الديوان وصفا ملازما للشاعر، ومن دواوينه أيضا «دموع لا تجف»، فضلا عن كثير من القصائد التى لم يضمها ديوان واحد، وجمعها الباحث عزت محمود على الدين فى رسالة الماجستير التى أنجزها عن الشاعر.
كتب «أبوفاشا» نحو 200 عمل للإذاعة والتليفزيون، أشهرها «ألف ليلة»، و«فوازير رمضان» التليفزيونية، كما كتب الأوبريت الإذاعى «رابعة العدوية»، الذى غنته أم كلثوم قبل ظهور الفيلم، ولـ«أبو فاشا» كتب أدبية وتاريخية وسياسية، منها «هز القحوف فى شرح قصيدة أبى شادوف»، و«الذين أدركتهم حرفة الأدب»، و«العشق الإلهى»، و«وراء تمثال الحرية»، و«تحقيق مقامات بيرم التونسى».
نشأ الشاعر وعاش أجمل أيامه فى قرية كفر مويس، الواقعة على رافد بحر مويس، حيث كان يدرس فى معهد الزقازيق الدينى فى شبابه، وفى شيخوخته زار النهر فانفعلت نفسه، وكتب قصيدة ممتعة بلغة راقية، وصور بديعة للريف المصرى، ومكان اللهو والذكريات فى الرياض اللفاء، والقصيدة عنوانها «رجعة إلى مويس»، يقول «أبو فاشا»: فى مطلعها
وصلَ الرَّكبُ يا نديم فهات، هذه رملتى وتلك رُباتى.
الرياضُ اللفاء والرفرف الخضر، ومغنى الصبا وملْهى اللِّداتِ.
ومغانى عمّاتك النخل فرعاء، صموتا كعهدها قائماتِ.
ومويس السهرانُ راويةُ الحبِّ، وساقى لحونه الثملاتِ.
عمل «أبوفاشا» مدرسا فى مدرسة «عنيبة» ثم بالواحات، وقطع رحلة التدريس بالعودة للقاهرة ليعمل بالفن والصحافة، وراح يؤلف التمثيليات الفكاهية وغيرها، ويختلط ببعض الفرق الفنية التى تمرس، من خلال وسطها الفنى الشعبى، بخفايا الفن، ولما زارت إحدى الفرق مدينة الزقازيق أقام لها إبراهيم دسوقى أباظة باشا حفل غداء، وألقى به الشاعر الشاب آنذاك قصيدة استرعت نظر الداعى، وتعرف أباظة عليه ورعاه، ودعاه للعودة إلى التعليم، فعاد مدرسا بمدرسة دمياط الابتدائية الأميرية، ثم مدرسة المعلمين بسوهاج، وحين أنشئت جماعة أدباء العروبة، انضم إليها.
عينه الوزير إبراهيم دسوقى أباظة سكرتيرا بوزارة الأوقاف، فلما نقل (الباشا) وزيرا للمواصلات نقله معه، وجعله وكيلا لمكتب بريد العباسية، فرئيسا للمراجعة العامة، وانتهى به الأمر فى وظيفة بإدارة الشؤون العامة للقوات المسلحة، رئيسا لقسم التأليف والنشر، وبقى فيها حتى أحيل للمعاش، فتفرغ للشعر والأعمال الأدبية والإذاعية، ووجد طريقه إلى العديد من النوادى والمجالس الأدبية، ومنها ندوة «القاياتى» التى كانت تضم جمهرة كبيرة من أعيان الأدباء، من أمثال حافظ إبراهيم وعبدالعزيز البشرى، وكامل كيلانى، وزكى مبارك.
ولـ«أبى فاشا» ديوان شهير رثى فيه زوجته بعنوان «دموع لا تجف»، ضم قصيدة رائعة كتبها لزوجته «نازلى» التى لقيت ربها فى 29 سبتمبر 1979، وتوفى «أبوفاشا» فى 12 مايو 1989 وكان قد حظى بالكثير من أوجه التقدير، إذ حصل على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1988.))....
شعره الذي اشغلني فترة من الزمن بعد ان تعلقت باثنتين من قصائده آنذاك،( حانة الاقدار ) و (عرفت الهوى) كانتا ملازمتين لي في اكلي وفي شربي حتى طغت على ما احفظ بل لم اردد لزمن غيرهما، وانا ابحث عن هذا الانسان الان الذي تذكرته بعد عقود اربعة من الزمن اكل الدهر مني لباب ذاكرتي فلم يُبقِ لي منها الا النزر اليسير الذي اتعكز عليه فيما اكتب الان، ولعلي استميح القارئين جميعهم العذر سلفا ان شطح قلمي في معلومة او واقعة ما على الصعيدين الاخباري والتوثيقي المؤرخ، هذا ما استطعنا عليه وللباقين المساهمة اضفاءا للحالة السامية التي تجمعنا اهل الشأن على منصة المعرفة...
في دراستي والبحث عن هذا الرائع طيب الذكر اقتنص تحليلا سليما يساعدني على اعطاء الرجل حقه، فلقد قرأت متابعة نقدية جميلة للشاعر الحجازي صالح المزيون اقتبس منها ماينفعنا هنا نصا منقولا واجب الاطلاع..
(( كتب الاستاذ صالح المزيون الشاعر والمستشار الادبي والناقد الفني
رؤى ونظرات في قصيدة (حانة الأقدار)
للشاعر المبدع ( طاهر أبو فاشا)
إن تحليل قصيدة لشاعر عملاق مثل طاهر أبو فاشا ليس بالأمر اليسير حتى على أعظم النقاد مهارة وأكثرهم دُربة ... وذلك لأن الدراسة المتأنية لعمل أي شاعر واستقراء إبداعاته تحتاج منا إلى سبر أغواره للوقوف على بواعث انفعالاته التي حدت به لأن يكتب ويقول فَيفتِك ... وأنى لنا ذلك ؟؟
فقصائد الشاعر أبو فاشا مؤلمة الحواشي ملتهبة المعاني ضاربة في الوجدان ... تحس وأنت تقرؤها بهمس الشاعر في أذنيك وكأنه ذلك الجَرْس الخفي الذي يخاطبك بأفكاره وهو صِنْوُك .. فيحذرك تارة ويبشرك أخرى ثم يستجديك مرة ويأمرك مرات ثم يحنو عليك ويُعَنِّفُك وكل ذلك على نسق نضيد مُتوارٍ خلف كلماته وبين سطوره ... لله در أبيه إنه الشاعر !! إنه شاعر الليالي ...
والليالي هو عنوان أحد دواوينه حيث يقول :
والليالى بعد هذا أنا منها وهي مني..
اسألوني أنا عنها واسألوها هي عني
بعد أن جاوزت سبعين وما زلت أغني
وعندما اردت تحليل قصيدة (حانة الأقدار) انتابني شعور من القلق غريب.. لم يحتمله فؤادي الكليم لاسيما وأنني منذ فترة ليست بالقصيرة أعيش وقلبي الخفاق حالة هدنة حذرة لايبغي فيها أحدنا على الآخر ليستريح كلانا من عناء الأشواق والمواجيد
لم عدنا أولم نَطْوِ الغرام
وفرغنا من حنين وألـم
ورضينا بسكون وسلام
وانتهينا لفـراغ كالعدم
ولكن الحظ أبى علي إلا أن ينكأ جراحي المندملة في ذاكرة المشاعر ويقذف بي إلى عتبات تلك الحانة لمنادمة الأقدار من جديد ... ولا بأس في ذلك فأحياناً تختبئ اللذة خلف أطياف الألم كمن يشتار العسل وهو طروب بلسعات النحل الحانية ليهنأ في الختام برشفة من ذلك الشهد المصفى ... فلعلها تنسيه أشواك الطريق الوعرة الموصلة إلى حانة الأقدار ...
والشكر كل الشكر لمن أعادني إلى تلك الأشواق والترانيم ..
حقيقة وكما أسلفت فقصائد شاعرنا أبو فاشا مُتقِدةُ المعاني والتراكيب وهي ليست متاحة للدارسين والقراء بشكل موسعٍ كبير, وذلك لندرتها من حيث الطباعة والتجميع , ومما يزيد الأمر تعقيداً على الناقد أيضاً أن هذه القصيدة من قصائده بالذات يكتنفها كثير من الغموض والشفافية في آن واحد ويحس قارئها بأنها نسج بديع محكم حبكته لنا يد الأقدار ليحجب عنا ماتوارى خلف غياهب تلك النفس البشرية المعذبة من كوامن وأسرار ليست مما يذاع حتى على أقرب الأصدقاء والخلطاء ولا تقف القصيدة عند هذا الحد فحسب بل تتجاوز تلك المرحلة الضبابية حتى تصل إلى مرحلة الكف عن الذات والتكتم عن النفس فتقف حائراً أمامها ليس لك معينٌ سواها فهي وحدها من تمنحك لفهمها جرعات من التأمل تبعاً لما آلت إليه حالتك من الوجد والتأثر فجرعة إثر جرعة وصورة خلف صورة إن سمحت لك بذلك واتخذتك نجياً وذلك دأبها متشابه في التناول والتشخيص مختلف في العلاج والتضميد .. فكلٌ حسب مشاعره وجراحه فهناك من يقرأ فيها الأمل وهناك من يعرف منها الألم وهناك من يرتمي إلى كلماتها طائعاً فتأسره ويهنأ بذلك القيد الرحيب وهناك من يفر منها هارباً من شخوص أشجانه ...
وأرى أن النقد حقيقة ربما يكون مختلفاً بعض الشئ مع هذه القصيدة إجلالا لها ورهبة منها فلا أريد تشويهها بالدراسة المنهجية من اللغة والنحو والعروض والأسلوب والصور والتراكيب إلخ بقدر ما أود التركيز على ما استتر خلف تلك المقاصد والمعاني من الصور الغيبية والنداءات المحزنة والصراع الفتاك بين مظالم هذه الحياة القاسية ولوعة التسآل والحنين إلى الهوى والحبور فقصيدتنا هذه غريبة الأطوار والمسالك التي مازال سر إبداعها مخبوءً لدى الشاعر حتى قضى ذلك السر بانتهائه ومغادرته لحانة الحياة التي ربما كان يعبر عنها بحانة الأقدار ...
حانــة الاقدارعربدت فيها لياليهـا
ودارالنــــــور والهــــــوى صاحي
هذه الازهار كيف تسقيها وساقيها
بهــــــا مخمــــــور كيف يــا صاح
ترى ماالذي كان يود أن يخبرنا به شاعرنا من وراء هذه الكلمات ؟؟ أهو الأسى والضجر من مفارقات هذه الحياة الكئيبة وعربدة أقدارها ؟ أم التأمل والبحث عن ذلك المكان البعيد الهادئ الذي يأسو الجراح ويهدهد القلوب حتى وإن كان ملتحفاً بالوهم وأقنعة الخيال ؟ أم كان ينزع إلى التفلت من أغلال الصواب وقيود الشهوات ؟ أم .. أم !! لست أدري فهناك الكثير والكثير من الاحتماليات المحتجبة خلف معاني الشاعرعلى أية حال ذلك هو الشعر الذي يأسر العقول ويفتن الخواطر ويحرك الأحاسيس لما يحتويه من المعاني والصور الثرة حمالة الأوجه والمقاصد وكأنه يعيد إلى مسامعنا قول الشاعر أبي الطيب :
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
وربما استطاع قراء هذه القصيدة من المتذوقين العاشقين إيجاد العديد والعديد من المقاصد والمعاني التي يلحظونها بعين حالهم وباستقراءات أنفسهم التي تتطابق مع ذواتهم لنخلص في النهاية إلى روضة من المبتغيات والمقاصد والاحتمالات المخبوءة خلف نجوم هذه الكلمات لنخلص في النهاية إلى تسجيل مرجعية في حالات النفس البشرية لدى الشعراء ...
كما أنني أستبعد أن يكون الشاعر بهذه القصيدة أراد أن يسوق لنا بعضاً من تجاربه الفارغة ! لأنه أسمى من ذلك فهو خبير متبصر بحقائق الأمور وأظنه ممن يرى النتيجة في الحدث قبل وقوعه !
والذي أميل إليه أن شاعرنا أبو فاشا اتخذ من الرمزية له مركباً ليَعبُر بنا هذا الموقف الأليم وليصف لنا حالة من حالات الصراع ما بين العقل والوجدان يُعلمُنا من خلالها مراحل التيه والحيرة الفتاكة التي ربما كان يمر بها خلال أزمة نفسية حادة اعترته وهو في ريعان شعوره وميعة هواه ... ويؤكد ذلك حسب وجهة نظري سيرة الشاعر وحياته العملية على الصعيد الشخصي والاجتماعي .. وهنا أذكر أن معرفة الشاعر ودراسة سيرته الشخصية تعتبر من أهم الأدوات لفهم نصوصه ! فشاعرنا كان طالباً في معهد الزقازيق الديني الأزهري وقد شكل هذا المعهد النزعة الدينية الغامرة لدى الشاعر أيّما تشكيل وقد ظل شاعرنا مزهواً محاطاً بتلك التعاليم التي زرعها في داخله أساتذته العظماء النابهون والتي لازمته طيلة حياته وقد عمل بالمعهد الديني ثم كان سكرتيراً في وزارة الأوقاف كذلك فإنه ينتسب إلى أسرة عريقة من الأسر المحافظة الملتزمة التي يصعب عليها تقبل فكرة العبث واللهو في مسارب الحياة وكل ذلك ربما كان من شأنه أن يُلجِئ الشاعر إلى التخفي خلف معالم تلك الشخصية التي تنشد الدعابة والارتياح في حانة من الحانات لتشتري الهوى وتبيع الرشاد أو لعله رغب في أن يتخفى فيكون الظل المحاكي لشخصية ذلك العاشق المجهد الحيران الذي راح ينشد دواءه بين أدوية الراح وأنامل الألحان وعبق الندامى فهو يصف لنا حانة من الحانات ربما كانت حقيقية تبيع الأماني والهوى وربما كانت حانة تختلف إليها الأقدار من كل تصريفٍ وقضاء لتدفع الناس من كُوَّتِها كلٌ في طريق ! والأمر سواء فلا خيار مع الحانات فهي الحاكمة المتصرفة وكأنها نحو الشجون تقودنا ركابا !
سألت عن الحب أهل الهـــــوى
سقاة الدموع ندامى الجــــــوى
فقالو حنانك من شجـــــــــــوه
ومن جده بك او لهــــــــــــــوه
ومن كدر الليل أو صفـــــــــوه
سلي الطير أن شئت عن شدوه
ففي شدوه همسات الهـــــــوى
وبرح الحنين وشرح الجــــوى
أيكة الأطيار في أغانيها لشاديها
على الأغصان ثــــــــــورة الراح ِ
يا غريب الدار مِلْ بنا فيها نناجيها
مع الندمان واتـــــرك اللاحـــــــــي
ورحت إلى الطير أشكو الهوى
وأسأله سر ذاك الجـــــــــــوى
فقال حنانك من جمــــــــــره
ومن نهيه فيك أو أمــــــــره
ومن صحو ساقيه أو سُكـره
سلي الليل إن شئت عن ســره
ففي الليل يُبعث أهل الهـــــوى
وفي الليل يكمن سر الجــــوى
دوحة الأسرار يا لياليها بواديها
هنا يلقاك صبح أفـــــــــــــــراح ِ
دائر دوار في بياديها يساقيها
على ذكــــــــــــــراك بين أقداح
ومع الليل تكبر المأساة فينكمش الضمير وأراه سائراً متجهاً إلى تلك الحانة وكأنني أسمع صيحاته في تلك الطريق الشائكة مردداً قول ناجي :
فرأيت فيما أبصرت عيني
ملهى أُعد ليبهج الناسا
يجلون فيه فرائد الحسن
ويباع فيه اللهو أجناسا
لم لاتذوق كؤوسهم شفتي
إن الحِجا سُمّي وتدميري
في ذمة الشيطان فلسفتي
ورزانتي ووقار تفكيـري
وسريعاً تقوده خطاه مضطرباً إلى أجواء تلك الحانة حانة الشفاء والنقاهة أو ربما كانت حانة الشقاء والندامة فلا أحد يعلم عن سورة الكأس إن تأججت في الشفاه واتخذت طريقها إلى القلوب قبل العقول فماذا تكون النتيجة ؟ لاأحد يعلم ... عجيبة تلك الكؤوس ! كم تحتوي من المتناقضات والأسرار ؟ يشربها الحيارى في مجلس واحد فتضل بعضهم وتهدي البعض (إلى مبتغاه ... احتراس) ويرشفها الصديقان فتأسر أحدهما وتطلق العنان للآخر وشاعرنا كان جاهلاً بما سيؤول إليه أمره لأن خيله لم تكن قد اعتادت السبق في تلك المضامير الثملة أو ربما كان شاعرنا مكبل الإرادة مسلوب الأفق يرسف في قيود الهوى وأغلال الرغبات ؟ لست أدري على أية حال هو أيضاً لم يكن يدري بعدُ ماذا تخبئ له الأقدار في تلك الحانة من المفارقات العجيبة ولكنه بما بقي له من رمق أخير كان مستعداً لتقبل أسوأ الحالات وأجمل اللحظات في آن واحد ... وكان بما لديه من رغبة جامحة وأمل جارف وفضول مستعر كان يهيئ نفسه إما لنصر مؤزر في حربه مع المجهول أو لهزيمة نكراء قد اعتاد عليها منذ صباه ... فجراحه لم تزل رطبة ندية تقاوم هجمات الاندمال وهو لم يزل صادياً يشتهي الري والخلاص ويطمع في الانعتاق من الحيرة والتيه متطلعاً إلى الحقيقة والخلود فطفق يسأل أهل تلك الحانة عن الحب والهوى بلهفة الغريب واستحياء اليتيم لعله يجد عندهم ما يطفئ لظى السؤال ولكن أهل الهوى في حانتهم تلك لم يجيبوه بل أحالوه للطير ليخبره بموجدات العشق والغرام وهذا أمر متوقع كان بالحسبان إذ كيف لهم أن يجيبوه وهم المخمورون الثمالى ؟ ألم يصفهم الشاعر بقوله : هذه الازهار كيف تسقيها وساقيها بها مخمور؟ فربما كانوا في حالة من الوجد لم تسمح لهم بإجابته أوربما ضنوا عليه بأسرار الهوى رحمة بفؤاده الغض الذي يلوح لهم من وراء عينيه الدامعتين وربما عمدوا إلى ادعاء الجهل لرغبتهم في أن يكتشف الشاعر بنفسه الإجابة عن تساؤلاته في الحب ... فما كان منهم إلا الإلماح له بأن الحب والهوى قرينان للدموع والجوى لايكادان يفترقان كالطير الذي لايستطيع مفارقة شدوه وغنائه فهما متلازمان إلى الأبد ومن غناء الأطيار تنبعث الراحة والسلوان ومع ترانيمها العذبة وشدوها الطروب تتكشف همسات الهوى ويعلن برح الحنين وشرح الجوى ! ولكن الامر جاء بالعكس ولم يجبه أحد على سؤاله حتى في تلك الأيكة الثملة بالأغاني والتغاريد ففهم عجزها عن إجابته لأنها صرفته إلى الليل الحكيم ... فمضى عنها وتركها هانئة وادعة تطرب لتلك الأقدار في أمرها ونهيها وكأنها لاتكترث لأي شئ سوى أنها لاتريد أن تصحو من تلك النشوة المحببة فتنحدر من الحلم الوثير إلى الواقع المرير !
وراح مسرعاً ينشد الليل ليخبره عن سر الهوى ففي الليل يبعث أهل الجوى وفي الليل تشرق شمس الهوى ...
ولما طوانى الدجى والجـــوى
لقيت الهوى وعرفت الهـــوى
ففى حانة الليل خمَـــــــــــارُه
وتلك النجيمات سٌمّْــــــــــارُه
وهمس النسائم أســـــــــراره
وتحت خيام الدجى نـــــــــاره
وفى كل شيئ يلوح الهـــــوى
ولكن لمن ذاق طعم الهـــــوى
ما أحوج الشاعر إلى الليل ... إنه عالم من السحر والفتون يبعث الأماني مشرقة خلف سحائب الأسى والأنين فتتراءى تلك الصور راقصة لتبعث في النفوس أمل اللقاء ودفء الظنون إنه النور الساطع المسلط على لغة المشاعر وصياغة الأحاسيس وتناول الأحلام إنه الذروة الصافية والعمق المسكر وذلك مادفع بالشاعر بغية اكتمال الصورة لديه أن يمر مابين ليلة وسواها من أمام تلك الحانة آخذاً معه حقيبة ملآى بالنسيان والسذاجة ليتزود بهما إن انتصرت عليه تلك الحانة ونجحت في التقامه لجوفها ... فهو لايدري ماذا سيفقد بالداخل !
نعم كان يمر في كل ليلة بخطى جبانة بطيئة تثقلها سلاسل الأعراف وحجارة المبادئ وقد كان يلاحظ في كل مرة يمر فيها من أمام تلك الحانة الثملة أن بابها النشوان يراوده عن حزنه وآلامه ويلوح مغرياً له برتاجه , فيمضي الشاعر عنه مسرعاً يرمقه بطرف خفي ورغبة متوارية تحت وقع خطواته المكابرة ولكن الباب بحكم خبراته الليلية كان ماكراً لدرجة كبيرة فقد كان يلاحظ نظرات الشاعر الظامئة عندما يحدق به ولاغرابة في ذلك لأنه كان يعمل في وظيفة جريئة إنه يعمل (باب حانة) ذلك كان مسمى وظيفته وقد اختير لهذه الوظيفة لأنه من أسرة عتيقة امتهنت التجارة مع الحانات والأفئدة فأبوه وجده كانا شجرتين قديمتين في كرمة تلك البلدة وكانا على صلة معتقة بمعصرتها ... وتوالت الشهوات واستبد الفضول فتكرر المرور وعلا صوت الهوى بداخله وكأنه نشط من وقار وهو يردد :
ســـألثم كل شيء في طريقي
وأســقط كل شيء من حسابي
وأُخرِس كل صوت من ضميري
وأشــطب كل رشد من كتابي
أنا الأيــام آذتنـــي ودوما
تتابعنـي بألحـاظٍ غِـضــاب
وســـوف أذيقها ماجرعتني
فقد كشــرت عن سُمّي ونابي
فلا لمبادئي ســــأبيع عقلي
لعاطفتـي ... وأنعم بالتغابـي
هذا ما استقر في وجدان الشاعر لأنه كان تواقاً لخوض تلك التجربة بعد عدة صراعات مع ذاته اليائسة المتردية وبقي له أن يدعو الليل معه ضيفاً على تلك الحانة ليعرف ما استتر من أسرار الهوى والجوى فأذاب نفسه مع الليل والتحف بظلامه وكأنه نديمه الحميم وأخذ يحاوره ويسارره ويتنادمان ويتناجيان غير مبالين بهجمات الدقائق وطعنات الساعات وذلك ما كانت تصبو إليه روح الشاعر أن يكون الليل نديمه في تلك الحانة الذاخرة بكل لون وفصل وبكل نكهة وعبير وبكل صدفة وتدبير وكأنما انطوى ذلك العالم الكبير في عتباتها المتواضعة الساهرة ولم يلبث أن جلس هو وصديقه على إحدى الأرائك القلقة تقابلهما نافذة تطل على شرفة الأماني لتمنع فضول النسمات ومن خلفهما جدار مخلص أمين يحرسهما من تلصص الهموم والآلام ...
ودارت الكؤوس بين الندامى لتعزف على أوتار القلوب فتخرج وفوداً من الألحان تتسلل من كل المقامات ولا اضطراب ولا نشاز .. والشاعر بين ذلك كله يتأمل بإحساس مفرط متوقد مايدور حوله من مشاعر شتى لم يكن يوماً ليتخيلها قط .. وبدا قلبه خافقاً بالحب نابضاً بالحياة واستطاع في ذلك المجلس الندي أن يتوصل إلى رؤية الصورة المخبوءة خلف كل صورة مثّلت ومثَلت أمامه وتمكن كذلك من النفاذ إلى النقيض المتواري خلف كل وجه من الوجوه ومشاهدته على حقيقته فكانت تفرحه صورة ويبكيه نقيض تسعده قيمة ويهدمه مبدأ ! وهكذا تمكن من الوصول إلى السرائر وما أجمله وما أقساه من شعور ! لقد سقطت الأقنعة وبدأت الوجوه تختلف شيئاً فشيئاً لتعكس وتشف عن الملامح الحقيقية للروح المختبئة خلف أديم الجسد وأصبغة التطبع... وهكذا كان غارقاً في الاستقراء والتأمل سابحاً مع تلك الرؤى حتى إذا سكر السقاة وهدأ الضجيج وثارت العواطف وسكنت العقول وبدأت النجيمات بالانسحاب من مواقعها بعد أن أدت عملها على الوجه الأكمل وأرسلت الشمس بعضاً من ومضاتها لتوقظ الباب النائم فيأذن لها بالدخول وحان الوداع ... عند ذلك كان لابد لليل من الرحيل فقد فرغت الدنان وترنحت الأقداح فمضى الشاعر يعانق الليل ويصطحبه مودعاً للباب ليقول له :
أيها الليل الجميل كنت أراك منذ زمن بعيد ولكني لم أعرفك عن كثب ولم ألحظ سحرك وجمالك إلا بعد أن رافقتك في هذه الرحلة العميقة .. في كل مساء كنت تأتي لتلفني بعباءتك المشرقة لتأخذني إلى عوالمك البكر ولكني لم أكن ألحظ من تلك العباءة إلا مايسد عيني عن تلك المباهج والفتن التي تملأ الأفق ! ولكني عندما تجاوزت حدود آلامي وسدود أحزاني عبرت رغم عباءتك إلى واحة الأمل ورياض الأماني فكل ذلك كان بداخلي ولكن مشكلتي أنني لم أكن أعلم أنه بداخلي لأنني لم أعتد خوض غمار التجارب ... فضحك الليل وبدأ يجرجر أذياله بالانسحاب مبتعداً عن الشاعر شيئاً فشيئاً قائلاً له : إن الهوى يانديمي الأليف منثور مترامي على جنبات الزمن وأعتاب الحياة فهو في كل يوم يعانق الفجر ويداعب الغروب ولكن من منا يلمحه بقلبه ويستشعره بوجدانه ؟ وهنا نجد الشاعر قد اشترط حالة حكيمة بليغة لاقتباس ذلك الهوى وشرطه ذاك ينحصر في ذات الرائي وفي أعماق المخامِر ... وكأن الشاعر يريد أن يكمل لنا رؤيته في تلك القصيدة ويقول لنا في ختام قصيدته :
ولما طوانى الدجى والجـــوى
لقيت الهوى وعرفت الهـــوى
وفى كل شيئ يلوح الهــــوى
ولكن لمن ذاق طعم الهــــوى
ليخبرنا أن الليل أجابه بقوله :
أغادرك الآن وأنا سعيد بك لأنك أدركت الهوى ولقيته مطوياً بداخلك قبل أن تنشده عند سواك في الخارج وذلك لأنك قبل كل شئ أردت معرفة الهوى فبحثت عنه ولو لم تقدم الإرادة لم تكن لتعرفه حتى الآن وبعد أن طلبته بحثت عنه فوجدته وبقي لك أن تذوقه فتعتاد حلاوته وتدمن أشواكه وقد ذقناه سوياً في هذه الليلة الهانئة وثق تماماً أنك لن تضيعه بعد الآن فمن ذاق منه رشفة واحدة لن ينساها مدى الحياة ))...
وساتناول في القادم منةالايام قصيدة ( عرفت الهوى) لانها من نوع متميز آخر...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق