الأربعاء، 15 مايو 2019

قراءة في كتاب مقترح (كاظم الغيظ واشراقات نقدية مكثفة) دراسة نقدية في قصيدة (كاظم الغيظ) للشاعر غازي ابوطبيخ الموسوي.. الناقد كريم القاسم

الرثاء فن قديم قِدَمَ الشعر العربي ، حيث تفنن فيه الشعراء قديما وحديثاً لبيان قدراتهم التأليفية ، وبيان مشاعرهم ضمن صور شعرية مُنوَعة . وكثيرا مايكون مدح المرثي مُصاحبا لرثائه ، كون الشاعر يبحث في إظهار سِمات المرثي وما يلاصقه من صفات أضفَتْ على شخصه تاريخاً لايمكن مَحوَهُ أو إبداله أو دفنه .
النص الماثل امامنا (كاظم الغيظ) من نظم الاديب العراقي (غازي احمد ابوطبيخ) والذي يَعرِفُ ـ بحكم درايته وخبرته التأليفية ـ كيف ينسج قُماشة أدبية رثائية مُركَّزة البوح ، مُشرقة البلاغة ، دون الدخول في التكلف او التصنع او التطويل المُمل ، بل وضع اصبعه على مايكفي لإيقاظ بلاغة الموقف وتحريك أواصر التفاعلات الوجدانية في النص ، كي تنعكس امام المتلقي بأوفر حظ واروع معنى واجمل لفظ . فالشاعر يجب ان يختار من النظم في هكذا فن شخصية مناسبة يرثيها ، والتي يستطيع من خلالها ان يجعل بوصلته تشير الى الاتجاه السليم لجذب المتلقي واقناعه بالهدف والفكرة .
لذا فإن شاعرنا قد استطاع باختياره الذكي ان يستحضر روحا كبيرة من آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام ، قد نَقَشَتْ آثارها في جسد التاريخ ، ألا وهي شخصية ( موسى بن جعفر) رضي الله عنه والملقب بـ (كاظم الغيظ) . وهذا الاختيار يمثل جرأة أدبية كبيرة في وقت بدأت فيه أصابع دفن الحقائق بالنمو والاستطالة .
• لكي نزيح عن كاهل المتلقي جهد البحث عن تاريخ وتعريف (كاظم الغيظ) وددتُ ان أُقدِّم هذا الملخص ، كي ننطلق بعدها لتفحص هذا الأفق الرحب .
• (كاظم الغيظ) هو موسى بن جعفر(الصادق) بن محمد (الباقر) بن علي (السجاد) بن الحسين (شهيد كربلاء) بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهم وارضاهم اجمعين) ولُقِبَ بـ (الكاظم) لكظمه الغيظ ، ويُلقَبُ بـ (راهب آل محمد) لشدة ورعه وكثرة عبادته .
لقد عاش (موسى الكاظم) في العصر العباسي وعاصر المهدي والهادي و هارون الرشيد الذين اذاقوه مرارة الاعتقالات والمضايقات وخاصة في زمن الرشيد ، رغم انهم أولاد عمومة ، فكلاهما ينتسب الى جد واحد وهو عبدالمطلب ، إلا ان كرسي الحكم له ماله من هيمنة وقوة تطيح حتى بصلة الدم والنسب حتى يتولد بركان الظلم الذي لايلبث ان يطيح بكل عروش الطغاة مهما حفروا أونقشوا في صفحات التاريخ من اعمال شخصية ظناً منهم بأنها ستُخلِّدَ ذكراهم ، لكن هيهات فدعاء المظلوم سهم لايصده صاد ولايمنعه مانع ، وهكذا هي دوائر الأيام تدور ، وخير العروش من اعتبر .
ان هاجس الخوف من آل بيت النبي بقي الكابوس الذي يقضّ مضاجع الحكام على طول فترة التاريخ ، لذا فأن الخليفة العباسي هارون الرشيد كان كثيرا مايسأل موسى بن جعفر :
" لِمَ فُضِّلتُم علينا ونحن وأنتم من شجرة واحدة بنو عبد المطلب ، ونحن وأنتم واحد . إنّا بنو العباس وأنتم ولد أبي طالب وهما عمّا رسول الله (عليه الصلاة والسلام) وقرابتهما منه سواء؟ "
فكان جواب موسى بن جعفر :
" لأن عبد الله وأبا طالب لأب وأم ، وأبوكم العباس ليس هو من أم عبد الله ولا من أم أبي طالب." * .
*( كتاب أخبار الدول ـ ص113) *(وفيات الأعيان ـ ج1، ص394) *(الاتحاف بحب الأشراف ـ ص55 )*( تذكرة الخواص ـ ص259)
هاجس الخوف هذا هو الذي دعا الخلافتين الاموية والعباسية الى ان تذيق آل البيت مرارة السجون والوان العذابات والحصار والمراقبة ومحاولات تقليل الشأن ومحو الأثر عن طريق دسّ السم بطرق وحِيَل مختلفة ، رغم كل المناظرات التي كانت تضج بها قصورهم ، والتي كانت نهايتها الخنوع والاذلال ، كون الحق ظاهر مشرق ابلج .
إن ماجرى بين الرشيد وموسى بن جعفر قد طفح ذكره على صفحات التاريخ ، وكل الرواة ذكروا عذاباته وظلامته ، حيث كان متنقلا بين سجون البصرة و بغداد . وكان سجنه في بغداد عبارة عن (طامورة) وهي حفرة عميقة جدا في ارض السجن لايُرى فيها الضوء ولايُعرفُ ليلها من نهارها ، وقد عَمدَ الرشيد الى تكليف اقسى السجانين لمراقبته ومتابعته حتى يوم استشهاده مسموما وطَرْح جنازته على جسر الرصافة صباح يوم الجمعة خوفا من غضب الشارع آنذاك ومحاولة تهرب السلطة من هذه الجريمة الإنسانية ، بل وطمس آثارها كعادة كل الحكومات الطاغية .
ومن إراد الاستزادة بالمعلومات للفائدة يمكنه مراجعة { تاريخ اليعقوبي طبعة بيروت، صفحة 414 ـ 415 ، ومروج الذهب للمسعودي طبع دار الهجرة لبنان الجزء الثالث صفحة 346 ـ 355 ، وتاريخ بغداد للحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي الطبعة الأولى 1931م مكتبة الخانجي بالقاهرة ج13 صفحة27 ـ 32 ، و مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني طبع دار المعرفة بيروت، ص499 ـ 505 { وغيرها الكثير من المصادر التي توثّق حياة هذا الرجل الإمام ، وتشير الى وفرة عطاءه رغم مرارة السجن وألم السلاسل والقيود ، حتى أثَّر إيجابا في اعدائه وسَجَّانيه ، فحَوَّلّهم الى نفوس بشرية ترى الجانب المشرق من الحياة . وقد أخذَ وروى عنه الكثير من الرواة والائمة ، منهم أحمد بن حنبل والسمعاني وأبن بطه العكبري وغيرهم . وكانت تصله المسائل الفقهية والعلمية وهو في السجن ليجيب عليها تحريرياً حتى اعتبره جُلّ الباحثين وأصحاب الشأن بأنه (الرائد الأول في كتابة الفقه) .
القصيدة /
(كاظم الغيظ)
للشاعر غازي احمد
أبو طبيخ الموسوي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مليكُ دنياً خَراجُ الغيمِ يقصدُه ُ
ينأى فتخبطهُ في غزوةٍ يدُهُ
+
الرومُ والفرسُ والإفرنجُ تحذرُهُ
أنّى تلفّتَ لوّى خصمَهَ غدُهُ
+
يخافُ من راهبٍ في قيدِهِ حذَراً
فإنّ مَنْ في قرارِ السجنِ سيدُهُ
+
كذاكَ يرزحُ مظلومٌ بغيهبهِ
لكنّ طامورة َ الاحزانِ معبدُهُ
+
وكلما اطفأوا نورَ البصيصِ غوىً
أنارَ ما حولَه ُ كالشمسِ فرقدُهُ
+
سأئلتُ صحبي تُرى ماسرُّ قوتهِ
فقيلَ ذاكَ لأنَّ الفجرَ موعدُهُ
+
فجرُ المظاليمِ يستوفي ظُلامتَهمْ
وكاظمُ الغيظِ سيفُ اللهِ مُنجِدُهُ
+
غداً على الجسرِ يرقى صهوةً عجباً
تُسري ومعراجُ شمسِ اللهِ مقصدُهُ
+
الناسُ من حولهِ والنهرُ يتبعهُ
كأنّما منزلُ الافلاكِ مرقدُهُ
+
يا ظالمَ الناسِ خُذْ مِمّا مضى عبراً
فمَنْ يحُكْ سوطَ قهْرٍ سوفَ يجلدُهُ
...................................................................................
رغم ان هذا الرثاء والمديح له مديات واسعة الطيف ولايمكن حصرها في صفحات معدودة الا اني سأقدّم مايسمح به الحال من دلالات وفوائد نقدية تعين على فهم فلسفة هذا النص الرائع .
• المتصفح لتاريخنا الإسلامي سيجد ان الشاعر قصد الخليفة العباسي دون ان يشير الى اسمه نصاً ، وهذا ترميز راق ، فهو أراد عرض احداث واقوال تاريخية معينة تشكل إشارة ذكية الى المتلقي الذكي ، وسنبين هذا فيما سيأتي من محطات.
• النص الذي يشرق بين أيدينا يتألف من عشرة ابيات شعرية لاغير ، ومن بحر البسيط ، وقد رعاه الشاعر بنظمه الباهر ، فمثل هكذا مساحة شعرية يكون التنقل بين ابياتها وربط أفكار عباراتها شاقاً بعض الشيء لصعوبة ربط الأفكار بتنقلات موجزة سريعة ، لذا فمظم النصوص ذات الفضاء الضيق نجد احياناً فيها خللا في ربط الأفكار وتسلسل العبارات من بيت شعري لآخر ، وهذا مالم نجده في النص بسبب خبرة ودراية ورعاية ناظمه مما زاده بريقاً وبلاغة وإفصاحا .
• الفكرة
استطاع الشاعر ان يحول تأثره بحدث تأريخي خاص الى قضية اجتماعية تشع عِضات وعِبراً من خلال استعراض نظمي مكثف رصين .
• العنوان
جاء العنوان وهو يتكون من مفردتين (كاظم الغيظ) وهاتان المفردتان تخصّان صاحب الشأن وهو (موسى بن جعفر ) رضي الله عنه ، والذي لُقِبَ في زمانه بهذا اللقب ، ويُعَدّ تعريفاً ذكياً بليغاً ومحطة ارشاد للمتلقي بأن مايُنظَم سيتمحور حول هذه الشخصية .
• المقدمة
ان مقدمة النص تعكس دائما وجهة نظر الشاعر إضافة الى كونها عتبة تمهيد للدخول الى العرض ، حيث استعرض قوة احد طرفي الصراع وهو هارون الرشيد في بيتين شعريين بليغين يحملان دلالات ذكية نبيهة ، فالبيت الشعري الأول تمثل في عرض قوته داخل مُلكه ، والبيت الشعري الثاني تمثل في عرض قوته خارج مُلكه .
ففي البيت الشعري التالي :
" مليكُ دنياً خَراجُ الغيمِ يقصدُه ُ ... ينأى فتخبطهُ في غزوةٍ يدُهُ "
نجد هذا الابتدء البليغ قد استحضر الشاعر فيه مقولة الرشيد عندما خاطب الغمامة العابرة لسماء بغداد وقد بخلت بغيثها ... فقال : " أمطري حيث شئتِ فإن خراجك عائد إلي "
وهذه المقولة تجسد كبر مساحة المُلك في تلك الفترة ، . حيث تضمن هذا البيت مفردة (مليك) وتعني صاحب المُلك ، وهي صفة مُشَبَّهة تدل على الثبوت والدوام ، وأراد بها الشاعر ثبوت وقوة مُلك الرشيد .ودلالة كبيرة أخرى على قوة بطش الرشيد إن حاول احد الولاة عدم ارسال خراج ماتحت يده ـ مهما نأى وابتعد موقعه ـ فإنه سيبعث بسرية تأديب لتعود له بالخراج ، وهذا ماعناه الشاعر في عجز البيت الشعري ( يـنـأى فـتـخـبـطـهُ فـي غـزوةٍ يـــدُهُ ) .
اما البيت الشعري الثاني :
" الرومُ والفرسُ والإفرنجُ تحذرُهُ ... أنّى تلفّتَ لوّى خصمَهَ غدُهُ "
فقد استحضر الشاعر في صدر البيت القوى الكبرى الثلاث في تلك الفترة وهم (الرومُ والفرسُ والإفرنجُ) وحَذرَهم من قوة مُلك الرشيد ،وإن أي فعل استفزازي له سيكون نصيب الخصم هو الخسران والهزيمة ، وكأنَّ الامر أمر مفروغ منه قبل وقوعه ، فالمستقبل قد حسم النصر ابتداءً.
هذا التعريف الضخم من قبل الشاعر في بيتين شعريين فقط هو كثافة بليغة قد سُبِكَتْ بمهارة فائقة ، وتعريف واسع الطيف لطرف الصراع الأول .
• دلالة الإشارة بالمضارع
ان الخطاب الشعري لابد له من بلاغة موقف من خلال التعامل الذكي مع ازمنة الأفعال ، كونها عتاد التخاطب مع إحساس المتلقي ، لذا نجد شاعرنا قد تفنن في استعمال ازمنة الأفعال بما يناسب المقام والمقال .
مثلا .. جاء بعبارة (ينأى فتخبطهُ في غزوةٍ يدُهُ) حيث تَضمَنتْ فعلين مضارعين (ينأى، تَخبطُ) ولو جاء بالماضي لما اختلف الوزن لكن البلاغة هي التي ستختلف ، فهو أراد من المضارع الاستمرارية للسِمة والتجدد .
• دلالة الإشارة بالماضي
في البيت الشعري التالي :
" الرومُ والفرسُ والإفرنجُ تحذرُهُ ... أنّى تلفّتَ لوّى خصمَهَ غدُهُ "
حيث غير الشاعر نظمه هنا فجاء بعبارة ( أنّى تَـلَفَّتَ لوّى خصمَهَ غدُهُ) مستعملا الزمن الماضي في (تلفَّتَ ، لوى) لانه أراد التحقيق و اتصال الماضي بالغد المستقبل لبيان عظمة وقوة الموصوف ، وهكذا كان شأن العرب في نظمهم .
ثم ان استعمال لفظة (لوى) هو اختيار ذكي لما تحمله من معان مناسبة لهذا اللفظ ومسايرة لمعنى العبارة لتوفير بلاغة برّاقة واشارة مُشرقة ناصعة .
• الصورة الحركية
اهتم الشاعر بالجانب الفني من خلال توفير الصور الحركية والتي رسمها بالافعال التي تخصها وترمز اليها ( ينأى ، تخبطُ ، تلفتَّ ، لَوى ) كما في البيتين الشعريين التاليين :
" مليكُ دنياً خَراجُ الغيمِ يقصدُه ُ ... ينأى فتخبطهُ في غزوةٍ يدُهُ
الرومُ والفرسُ والإفرنجُ تحذرُهُ ... أنّى تلفّتَ لوّى خصمَهَ غدُهُ "
وهذه الأفعال كلها تخص الفعل الحركي والتي تزيد الصورة الشعرية قوة وإثارة مبتعدة عن الاستقرارية والسكون مما تزيد من تفاعل المتلقي .
• التقديم والتاخير للـ (للمفعول والفاعل )
استطاع الشاعر وبحكم براعته من التلاعب بمراتب الالفاظ ، حيث قدم المفعول به على الفاعل في عبارة (لوّى خصمَهَ غدُهُ ) فإن نسج وتركيب هكذا عبارات يكون الغرض منه هو تمكين الخبر ومعنى الجملة في ذهن السامع ، لأن في التقديم والابتداء تشويقا إليه .. كقوله :
" الرومُ والفرسُ والإفرنجُ تحذرُهُ ... أنّى تلفّتَ لوّى خصمَهَ غدُهُ "
حيث نجد في عجز البيت الشعري المفعول به (خصمَه) قد تقدم على الفاعل (غَدُهُ) فالشاعر أراد ابراز معنى (لوى) فكان لابد من تقديم (الخصم) هو الامرالاجدى لتكون الإشارة ابلغ وارسخ في ذهن المتلقي.
• حضور الخيال
الاهتمام بالجانب الخيالي هو من مهمات الناظم النبيه . فنظم وتأليف من غير خيال خصب كالكتابة على سطح الماء سرعان ماتفقد المعاني رسوخها في فضاء التلقي . ولننظر الى هاتين العبارتين ( خراج الغيم يقصده ) و( لوى خصمَهُ غدُهُ) كي نجد مقدار وحجم الخيال المتوفر فيهما .
• الانتقال الى طرف الصراع الثاني المتمثل بـ (موسى بن جعفر) رضي الله عنه ، يحتاج الى محطة انتقال ذكية فارهة واسعة الفضاء ، والصعوبة تكمن في عدم تمدد الفضاء لاكثر من بيت شعري واحد كون القصيدة قوامها عشرة ابيات شعرية لاغير ، لذا فقد استحضر الشاعر (غازي ابوطبيخ) خبرته في تعزيز الموقف لينشيء بيتا شعرياً كفيلاً بالعبور الى استعراض الظلامة ووصفها ضمن صور شعرية بليغة .
فلو تأملنا محطة الانتقال الكبيرة هذه :
" يخافُ من راهبٍ في قيدِهِ حذَراً ... فإنّ مَنْ في قرارِ السجنِ سيدُهُ "
نجد الشاعر قد صَدَمَ المتلقي بمفردة (يخاف) والذي يعود على (الرشيد) بل وتمكن من وصف الحال في الصراع الخفي مرة والمُعلن مرة أخرى بأن صاحب هذه القوة الكبرى (يخاف) ويرتعب من سجين مُقَيد في (طامورة) لانه يعلم بأن هذا السجين المظلوم هو (سيده) شاء أم أبى . ومن هنا بدأ الصراع .
• التصوير الحسي
المتطلع الى البيت الشعري التالي :
"كذاكَ يرزحُ مظلومٌ بغيهبهِ ... لكنّ طامورة َ الاحزانِ معبدهُ "
يجد الشاعر قد استعمل الفعل (يرزح) للدلالة على عمق الألم ، و(غيهب) وهو اسم يدل على شدة الظلمة ، وهما استعمالان مناسبان لمعنى البيت الشعري ، حيث وفرتا صورة حسيّة غاية في الاثارة ، فطامورة السجن بالنسبة لـ (موسى بن جعفر) باتت مكان عبادة ، حتى ان (هرون الرشيد) لما حضر مرة الى السجن لمراقبته ؛ نظر الى اسفل الطامورة فلم يجد غير ثوب مُلقى على الأرض لايتحرك ؛ سأل عن ذلك ، فقال السجان : "هو موسى بن جعفر ساجد منذ ساعات."
فقال الرشيد : " هذا راهب آل هاشم "
لذا فإن توفر الصورة الحسية والتي تثير في المتلقي العاطفة وتجعله يسرح في فضاء تأملي فسيح هي من مواطن القوة في هكذا نظم ، بل ومطلوب تواجدها .
• صدق السِمات
ان صفات المرثي قد ساعدتْ الشاعر على رسم الصور الشعرية البليغة ، فهي مُتجَسِدة تاريخيا ووجدانيا وملاصقة للصدق بكل جوانبه . وهكذا صفات لاتجهد المؤلف او الناظم في الاستقصاء أوالبحث عنها ، إنما تحتاج الى ناظم متفنن بارع في كيفية رسمها والتركيز على محطات الأهداف المرجوة .
لذا فان الشاعر استطاع مِن زَجِّ بعض السمات المهمة والمتفردة في هذا الفضاء الرحب رغم تكثيفه ، فقد تناول صفات (الكرم ، الصبر ، العبادة ، السمو ، العلِم ، الكاريزما ... الخ ) وهذا ضخ نبيه يحتاج دراية وخبرة لايُستهان بها .
ويكفينا هذين البيتين الشعريين البليغين إشارة ومعنىً :
" سأئلتُ صحبي تُرى ماسرُّ قوتهِ ... فقيلَ ذاكَ لأنَّ الفجرَ موعدُهُ
فجرُ المظاليمِ يستوفي ظُلامتَهمْ ... وكاظمُ الغيظِ سيفُ اللهِ مُنجِدُهُ "
حيث جسد الشاعر هنا تسائلاً وإجابة مع إيضاح لمعنى (فجر المظاليم) ووقوف السماء الى جانب آل البيت وهي بديهية لاخلاف عليها .
• سمو الشخصية
في هكذا فن يكثر الشعراء من استعمال الفاظ تدل على الرفعة والسمو وكرامة المُحتَد وغيرها من سمات الجلال والحضوة والرقي ، وليس غريبا ان يستعمل شاعرنا مفردات وعبارات تدل على سمات السموق والعزة والشرف وهي بعض شمائل (موسى بن جعفر) رضي الله عنه ... حيث جاء بمفردات دالَّة مثل (الشمس ، فرقد ، معراج شمس الله ، منزل الافلاك) وهذه المنحى المجازي استُعمِلَ بذكاء بليغ الإشارة وخاصة في مفردة (فرقد) في البيت الشعري التالي :
" وكلما اطفأوا نورَ البصيصِ غوىً ... أنارَ ما حولَه ُ كالشمسِ فرقدُهُ "
و(الفرقد) هو نجم مضيء دائم الظهور يهتدي به اهل الأرض ، وهذا من جميل المجاز وبليغ الإشارة .
• استحكام الختام
دائما تُختَم نصوص وقصائد الرثاء ببيت شعري يجمع العِبرة والموعضة ، وهذا مادرج عليه أصحاب الشأن . لذا فأن مسك ختام هذا النص جاء ببيت بليغ الإشارة كبير الموعضة كثيف المعنى :
" يا ظالمَ الناسِ خُذْ مِمّا مضى عبراً ... فمَنْ يحُكْ سوطَ قهْرٍ سوفَ يجلدُهُ "
فأراد الشاعر بمفردة (مضى) الماضي من التاريخ بكل عِبَرِهِ واحداثه .
بعد تخطي هذه العتبات النقدية المكثفة لابد ان نبين مايلي :
ــ جاءت الفكرة تحمل لَبِنات الجرأة والاقدام ، مما زادت النص قوة وعنفواناً .
ــ إتَّسَمَ النسج بذكاء النظم من خلال اختيار مفردات والفاظ دالة تعين على بلوغ الهدف والقصد .
ــ نجح الشاعر في تصوير حلبة الصراع من خلال صور شعرية دالة الثبوتية بعيدة عن العشوائية والتذبذب .
ــ تجاوز الشاعرسبب وكيفية الموت للمرثي في صوره الشعرية الى فيض شمولي لسِماتٍ جليلة بهية من عِلْمٍ وصبرٍ على العذابات ، ونبلٍ أخلاقي وامتداد فلسفي وحضور اجتماعي وتأثير حتى في المحيط الخارجي من أعداء وسجانين ، حيث استطاع الشاعر من تفحص بُؤر الاشعاع .. مثلا في قوله :
ــ ابتعد الشاعر عن استعمال مفردات والفاظ تعيق المتلقي من بلوغ عتبة الفهم واستدراك المعاني .
ــ التحرك النظمي ضمن فضاء مُحدد مكثف اضفى على النص مَسْحَة القوة والاستحكام .
ــ استعرض الشاعر في مسك ختامه عِبرة وعِضة (... فمَنْ يحُكْ سوطَ قهرٍ سوفَ يجلدُهُ) هذه العبرة وهذا المثل المنظوم قد لَخَّصَ فكرة النص برمَّته ، وهو نهج قد درج عليه الأوائل من الشعراء في هكذا فن .
مع وافر الاحترام والتقدير .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق