الأربعاء، 15 مايو 2019

قراءة في كتاب مقترح"1" المبدأ الثابت، في قصيدة "خاطر مستمر" للشاعر غازي احمد الموسوي الناقدة نائلة طاهر

العنوان عتبة مهمة في بعض الأعمال الأدبية و بعض كتاب قصيدة النثر يتحرون جيدا في اختيار مفرداتهم التي يتشكل منها النص بحيث يكون لكل كلمة دلالة متعلقة بالمعنى الاجمالي ،بالتالي يصبح العنوان احد مفاتيح النص التي قد توجهك الى معانيه العميقة أو تلفت انتباهك الى بؤرة القصيدة .
خاطر مستمر عنوان القصيدة المتناولة بالبحث للشاعر العراقي غازي أحمد الموسوي هي أحد النماذج التي تقاس عليها الفكرة القائلة بأن العنوان في القصيدة النثرية القائمة على الفكرة لا بد ان لا يشتق من النص أو ينشق عنه وانما يكون الشرفة التي يطل من خلالها ذهن القارئ على مكامن النص ورمزياته البسيطة أو المركبة ،لأن النص اذا ما اكتنز بالفكرة والرمز تصبح مسألة الشعرية به مشكك بها اذا ما سلمنا بمبدأ ان الشعر كتب للمتعة الحسية وان الفكرة به لا بد ان تكون في مستوى الفهم لا مجرد هرطقة (بمعناها المعجمي) .
الخاطر في معاجم اللغة هو ما يخطر بالقلب من أمر أو رأي او معنى ،أي ان ما سنقرأ من القصيدة بعد العنوان هو رأي ومعنى مصدره القلب ،بالقلب ندرك الحد الفاصل ما بين المعلوم والمجهول وما بين المحسوس والمعقول ،اي برزخ الوجود برؤيا القلب على حد قول ابن عربي .خاطر مستمر عنوان مركب من مفردتين احتاج المنعوت نعتا ،الصفة التي اعطيت للخاطر منتقاة جيدا ويعني الاستمرار الديمومة ،التواصل والالحاح، اذن الخاطر تحول الى رؤية (فكرة )وسيتحول الى رؤيا. رؤية يتداخل فيها المحسوس والمعقول وما على القارئ الباحث عن حقيقة ما بعد قراءة النص سوى اختيار الضفة المناسبة لهواه والركون إليها أو اتباعها ،فالمسألة في هكذا نصوص ليست مجرد قراءة والحكم على قيمة النص أو الاستمتاع به وانما هي نتائج مستخلصة من بحث الرائي .
الوصول الى الفكرة اعتمد الشاعر ادوات تكثيف مختلفة لم يعمد الى التكثيف نفسه وانما الى ادواته وعناصره على اعتبار أن الفكرة في ذهنه وجودية لها ارتباطات كثيرة وتشابك مع عناصر مختلفة ،الفكرة أمامه وربما قد تكون نتأت منه وتدلت فروعها وهو يحاول تجميعها يراها ولكنها غير واضحة كانتظار لسحابة تغير لون السماء دون أن نعرف موعد أو حجم أو نوع هطولها (لم تكن
غمامة الفكرة
عارية الحروف بالتمام)
وقد تكون الغمامة هي الأجمل الذي يحبس الفكرة ويمنعها من التجلي كاملة ،الاكيد ان هناك معيقا ماديا يمنع انسياب الفكرة ويتركها متدلية في عطش او جفاف ،تزيد من تأرق الجسد والعقل في محاولاتهما المتكررة لإدراكها أو تطويعها .
ينتج عن تكرر تلك المحاولات لبلوغ الوعي تنوع في الوسائل والتجارب.الساعي الى غرض ،الباحث عن حقيقة ،أو الراغب في مطمح له وسيلة مثله مثل المريد العاشق لذات الله المتوسل إليه بأوليائه أو بالدعاء والعبادة قصد ادراك الله في ذاته أو التقرب إليه ليجده حوله ،كذلك كان الشاعر في صحوة بحثه يطوف في مساحة منحدرة كلما تمسك فيها بحبل خلاص تركه ليبدأ من جديد محاولته باحثا عن معنى آخر للإمتلاء أو بلوغ مرحلة من السلام مقنعة على غير شاكلة ما سبق . وسيلة الشاعر الاولى كادت تعطيه اليقين الأفضل والكامل ،(وحين غادرني ,,اليوشا,,
ما عدت مقتنعا
بكل دعوات السلام قط
من اية جهة صدرت?!) اليوشا هو رمز الايمان والصلاح ،والايمان هو الادراك الكلي ،اي ان الوعي بالحقيقة الثابتة يبدأ بالإيمان ،بالقناعة أولا بالفكرة ومن بعدها يأتي التعميم ،لكن الايمان مسألة تنقص وتزيد وهي خاضعة اكثر للقلب فكلما ألحت الفكرة وأرقت الأسئلة صاحبها جاء الايمان بأجوبة تخمد الضجيج وهذا طبعاً في حالة الإدراك بالبصيرة لا العقل .إلا أن الإيمان لم يعد كما في اللغة اسم مفرد صار جمعا وتعددت أوجهه ،ايمان مسيحي،يهودي ،اسلامي ،ثم مذهبي بكافة انواعه وتبعياته ....
تعددت المذاهب والنحل وكل يفصّل ايمانه حسب غايات سياسية أو مذهبية وانتهينا الى مفاهيم مختلفة للسلام وافرغت الكلمة من دلالتها باختلاف المقصد أو الجهة التي أتى منها والإطار الموضوع لها .وقد تشن الحروب باسم السلام وتقتل الأرواح باسم الدين أو إعادة البناء مثلنا مثل نيرون حين احرق روما بسكانها وارتكب جرائمه بدعوى إعادة بناء الوطن والمحافظة عليه .الايمان الآن صيغة متغيرة عند العامة لكنها عند الخاصة لها صلة وثيقة ببعض الخلاصات والخلاصة جزء من الوعي أو كله احيانا لذلك هناك بعض المغاليق تفتح لنا من خلاله ( لم يتركني اليوشا خالي الوفاض
ترك عندي شيئا يشبه الوعي
ليس انا من يحمل الرب
خطايا الخليقه..)
التجربة الايمانية انتهت بذات الشاعر الى التسليم بأن الانسان مسؤول عن خطاياه والخطايا هنا هي الأفعال وبالتالي الوصول الى فكرة ان الانسان مسير وغير مسؤول عن تداعيات اخطائه هي فكرة متهافتة امام المبدأ المتصل بالإيمان والجزاء من صنف العمل .والقصيدة بشخوصها و رمزياتها بنيت على البحث في فكرة الجريمة والعقاب في هذا الوجود وليست الجريمة كفعل وانما كفكرة فلسفية مرتبطة بالوجود ومعها الشاعر يتساءل هل يجدر بنا ان نعيش كنيرون بخروقاته وخطاياه على الأرض ام كإيفان الشاعر بروحه الحالمة القريبة من الجنون المرتبط بفكرة الجنوح للمستحيل ، إيفان الملحد الفيلسوف ،المفكر والشاعر ايضا في رواية الإخوة كارمازوف يراود الشاعر على ركوب الموجة يغريه بالضفة اليسرى حيث يركن مجانين من نوع خاص ،جنون الاختلاف ،الابداع ، رفض المسلمات وتقويض الفكرة الا أن مسألة الجنون لدى الشعراء والفلاسفة وحتى الصوفيين وان اعتبرت قمة الوعي الا انها تظل مرحلة لا تدوم لأنها مرتبطة بحالة وجدانية متغيرة وإن طالت، فالإلحاد لم يحسم وظل فكرة يركبها البعض فترة ثم يعودون وحتى اليسار نفسه لم ينجح في ان يثبت صحة رؤاه على أرض الواقع والفلسفة ظلت فلسفة تطرح الأسئلة وتجيب عنها بأخرى وتواصلت على مفهومها اللغوي حب الحكمة لا الحكمة نفسها .لذلك فإن ذاك الوعي ليس الوعي الكامل الذي يرضاه الشاعر الذي نعرف تنوع تجاربه ومرجعياته.ولهذا يعود الشاعر الى المرحلة الاولى التي انطلق منها ،مرحلة الدهشة التي يسبقها انغماس في الحياة المادية ،او الرجوع الى البدائية التي تفرضها الغريزة تلك المرحلة يرمز إليها الشاعر بديمتري الشاب المنغمس في اللذات واللاهث خلف المشروع وغير المشروع منها ،هذا الخاطر كاد ان يستجيب له فهو ذات مثقلة بالرغاب بحكم الطبيعة كاد ان يقر بأن تلك الوسيلة هي نهاية المسعى ،لكن مازال في دهشته وما كان يجب أن يكون ورد أيضا في صيغة شك (والشك نفسه منهج فلسفي )حين قال" ربما" وربما اسم يدخل على المعارف والافعال ليحيلها الى حالة محتملة لا موثوق بها
(كن مثل ,,ديمتري ,,
ايها المثقل بالرغبات الثقال
ولا انكر أنني مازلت حالما
ربما ...
هي طبيعتي الموروثة!!
او .......
ربما هذا ما يجب ان يكون) فالجسد بعض من الوعي وما يريده الشاعر هو الوعي كله .
البحث عن الوعي الكامل هو نفسه البحث عن الحقيقة واذا عجزت الوسائل والمناهج نعود الى الايمان ،الى البصيرة الى القلب ،ويستمر الخاطر في رؤاه حتى في حالة هدوئه واستقراره ،وعودة الشاعر الى اليوشا هو عودة المتصوف الى دواخله المتصالحة مع كل الغيبيات الذات التي تضحك من فعل الموت اذ تراه خلودا ،الذات التي يستمر سلامها باستمرار حالة الايمان بها .
القصيدة كتبت على الصيغ الفلسفية مقتربة اسلوبيا من الشعر الغربي لا قصيدة النثر العربية ،الشاعر غازي أحمد الموسوي من المعجبين بالشاعر الفرنسي رامبو وقد بنى نصه على لغة مختلفة غريبة عن لغة قصيدة النثر السائدة ،لكنها ليست شاذة إذ هناك العديد من التجارب الشعرية العربية لشعراء معروفين اتجهت لذات المنحى التجديدي الذي دعا إليه رامبو حين قال« ينبغي أن نعثر على لغة شعرية جديدة.. ينبغي أن نطالب الشعراء بأن يأتوا بشيء آخر جديد ، شكلاً ومضموناً ، ذلك أن اختراع المجاهيل أو (اكتشاف المجاهيل بالأحرى) يتطلب منا استخدام أشكال لغوية جديدة » والمجاهيل هو ديدن الشاعر غازي أحمد في كل قصائده النثرية .وقد تحدى بنصه مقولة النفري"كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة" محاولا ان يخلق لغة أخرى تنجح في الرؤية بأسلوب شعري كلما حاولنا اختراقه كلما اتضحت جواهره الكامنة. وهذا طبيعي لأن النفاذ الى الجوهر عملية معقدة هي نفسها تحتاج الى رؤية قبل التنفيذ لذلك شاب الأسلوب بعض الفلسفة التي تذكرنا بكتابات نيتشة التي طبعت بالشعرية رغم افكارها الفلسفية المتعلقة خاصة بالوجود ،يقول نيتشة في قصيدته أغنية ثملة:
أيها الإنسان! اِنـتـبِـه !
ما الذي يقـول مُنتـصَـفُ الـلـيل العميق ؟
" أنا نِـمْـتُ ، أنا نِـمْـتُ -،
من حُـلم عميـق أفـقـتُ،-
الدّ ُنـيا عمـيقـة ،
وأعمـقُ ممّا ظـنَّ النّـهـار .
عميـقٌ ألَـمُـها -،
السّرورُ - ما يزال أعمقَ من معـاناة القـلـب :
يقـول الألـمُ : تـلاشَ !
ولكنْ كـلُّ سرورٍ يـريد خـلـوداً -،
عميـقاً ، خـلـوداً عمـيقاً !" هنا الصحوة الحقيقية التي نتبين منها الخيط الرفيع مابين الألم والسرور الوجود و اللاوجود الألم موت مؤقت أو نوع من السعي المنهك والذي لابد ان نتقبله بسعادة من سيجد الأعمق من سينتهي لخلود كحقيقة أعظم ،نفس هذه الرؤية بقصيدة خاطر مستمر حين قال شاعرها ساخرا من الموت ودورة الزمن التي تنتهي بعدم لا يوجب حزنا مادم المسار الأخير نحو الخلود
__
مدهشة دورة الزمن...
أخيرا ...
صار الموت باعثا على السخريه
__
لازلنا على نفس الرأي ان لكل كلمة بالقصيدة رؤية كاملة مما يجعلنا لا نسلم مع هكذا شعراء بضيق العبارة ،وان احترافهم الشعر والكتابة هو أدوات من ادوات التحدي والاثبات. يقول الأمام علي رضي الله عنه :
"اتحسب أنك جرم صغير ..وفيك أنطوي العالم الأكبر"
لذلك فإن شاعر عميق ينطلق من دواخله ويبحث عن حقيقته في هذا الوجود قادر على تطويع العبارة ليعكس كل ما به وحوله بما امتلك من قوة وجسارة لغوية .
أخيرا لابد من الإشارة أن الشاعر تقصّد الاستئناس في قصيدته النثرية هذه برمزيات شخوص رواية الإخوة كرامازوف لما فيها من دلالات إنسانية ونفسية وربما لأن تجربته تشبه تجربة الكاتب الروسي دوستويفسكي ورحلته في الحياة التي انتهت بكتابته برواية الإخوة كرامازوف وارادها خلاصة ونهاية قيمة لمسيرته .. دوستويفسكي كشاعرنا كان متعاطفا مع اليوشا وقدمه كوسيلة خلاص بعدما مر بمراحل مختلفة في حياته كالرومنسية والاشتراكية والشاعر غازي احمد كذلك مر بمرحلة السجن، وسنوات من العزلة كانت كافية لينهل فكريا من الأدب العالمي خاصة ومن الفلسفة ومن اقطاب الفكر الصوفي لتأتي قصائده بعدها توليفة ما بين الفلسفة والشعر والروحانيات الصوفية التي لها الأثر العميق في ان تجعله يتصالح مع كل التناقضات بهذا الوجود ويتقبلها على علاتها مؤمنا بالجانب الخير في نوازعنا وثابتا على مبدا الايمان الخالد ،اليوشا مازال حيا كسراج لا ينطفئ ،وسيظل رغم كل ما يحدث من جدل وصراع أنساني في هذا الوجود .
_
و,,إليوشا ,,
رغم كل ماجرى
مايزال حيا
اليس غريبا
ان يظل ,, إليوشا ,,
حيا حتى الآن
_
القصيدة
__
خاطر مستمر..........................
لم تكن
غمامة الفكرة
عارية الحروف بالتمام
كانت
شفتها السفلى دلعة وحسب ..
هذا صحيح..
لا انكر ذلك ابدا..
ولا أنكر شهوتي الماكرة
تلك المتنمرة على دخان الأفق
وحين غادرني ,,اليوشا زمناً,,
ما عدت مقتنعا
بكل دعوات السلام قط
من اية جهة صدرت?!
هذا المغمس بلعاب ,,نيرون,,
لم يك قادرا على الإضاءة ابدا
ولم يتركني اليوشا
خالي الوفاض
ترك عندي شيئا يشبه الوعي
ليس انا من يُحمّل الرب
خطايا الخليقة..
وهذا,,ايفان ,,يلمح لي
بضرورة ركوب الموجة
-كن مثل ,,ديمتري ,,
ايها المثقل بالرغبات الثقال
ولا انكر أنني مازلت حالما
ربما ...
هي طبيعتي الموروثة!!
او .......
ربما هذا ما يجب ان يكون
شئ بشبه الوعي
كان هناك?!
شئ يشبه وجه القصيدة
كان يتجلى
على هيئة امرأة حبلى
اقرب ماتكون
الى هيئة قبة الصخرة
كنت اتقرى على مرآته
وجه دخيلتي..
بينا امتعني كثيرا
وقوفي على ساحل التدلي!!
كنت اقهقه مثل طفل غرير!!
مدهشة دورة الزمن...
أخيرا ...
صار الموت باعثا على السخرية!!
و المعركة الفاصلة
ماتزال مستعرة,,
و,,إليوشا ,,
رغم كل ماجرى
مايزال حيا
اليس غريبا
ان يظل ,, إليوشا ,,
حيا حتى الآن ?!..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق