الأربعاء، 15 مايو 2019

مقدمة الملف النقدي الأول: الناقد/غازي الموسوي

لأننا في (آفاق نقدية) على وشك إصدار الملف النقدي الثاني وإنجاز الثالث بعونه وتوفيقه تعالى ،فقد بات من الضروري نشر مقدمة الملف النقدي الاول لغرض اطلاع الراغبين بالإطلاع عليها مع التقدير..
ومن الجدير بالاشارة اننا سنمنح هذا المتصفح إجازة مؤقتةً على أمل العود الاحمد اليه قريباً بإذنه تعالى،بينا سنتابع المنشورات من خلال متصفحنا الخاص ( غازي احمد ابوطبيخ)..شاكرين للجميع حسن التواصل والتفاعل مع خالص الوداد
وعميق الاحترام..
"""""""""""""""""""""""""""""""""""""
مقدمة الملف النقدي الأول:
"""""""""""""""""""""""""""""""""""""
زاوية نظر تمهيدية:
***************
هذا الكتاب توليفة من:
"العجالات النقدية الكثيفة" و"الأسفار الموازية"، و"المقدمات التعريفية"، بإزاء مجموعة مختارة من النصوص الابداعية المتنوعة الاجناس والطرازات من عموم الساحة العربية من المحيط الى الخليج، بعيداً عن اية مواقف مسبقة ضد جنس ادبي او طراز شعري ما. مع العلم اننا بصدد تقسيمه الى أجزاء متسلسلة، وهذا هو الجزء الاول منه بتوفيق الله وتسديده سبحانه. وغايتنا على وجه الخصوص توفير فرصة لمن لم تسنح له فرصة من السعاة في طريق الإبداع.وستكون نظرتنا لاي نتاج ادبي من زاوية نظر اكاديمية مُدَعّمة برؤية خاصة ناتجة عن خبرة تراكمت عبر مزاولة الفعل الابداعي بكل تنويعاته سواء أكان قصّاً بأنواعه أوشعراً بطرازاته المختلفة, مع تأجيلنا للاشتغال النقدي وفق منظورنا الخاص المبني على مرجعيات وأوليات من الموروث العربي والإسلامي والعالمي والذي سنتعرض لتفاصيله في الجزء الثاني بعونه تعالى،ولكننا سنعرض هنا موجزاً مكثفاً لفكرته كتأسيس اولي, فنقول:
" النص الإبداعي -بالاتفاق- مخلوق مبتدع بحسب نوعه وأداته التعبيرية كمشروع فني جمالي مقترح في مقابل هذا العالم .لهذا سننطلق من المقدّمات النظرية والرؤى الخاصة بالمطابقة او المشاكلة ،بين الانسان والفعل الإبداعي،التي اشار اليها النقاد العرب القدامى كالجرجاني والجاحظ مثلاً،لتبيان ان هذه المطابقة لاتتوقف عند حدود مقابلة الفعل الابداعي في باب "المبنى والمعنى" للنص أو"الجسد والروح"للإنسان ،باعتبار الجسد هو الاداة التعبيرية،والروح هي المضمون الذي تحمله،ولكننا اردنا هنا عدم الإكتفاء باطلاق مفردة الروح تعبيراً عن المضمون وحسب,وإن كان ذلك صحيحاً,فالحال عندنا تتعدى ذلك الى ان الفعل الإبداعي في حقيقته مطابق للانسان بكافة تفاصيله الحيوية.اي بمعنى آخر ان الفعل الإبداعي مخلوق حقيقي مقابل, لانه كائن حيّ ايضاً،وحياته يمكن ان تتجاوز بحيويتها كثيراً من البشر،وهذا ما سنعود اليه لاحقاً.ولكنّ مقصودنا من ذلك أن مديات نجاح اي نص فني او ادبي ترتبط عميقاً بمستويات توافر عناصر "المركب الحيوي" للإنسان،وهذا يعني مديات توافر عناصر المنظومة الحيوية الاتية:
اولا:
"البعد العقلي"متمثلاً بموضوعة واطروحة أو فكرة النص ,فلاقيمة ولا أيَّ اعتبار معرفي اوجمالي،اذا لم يكن النص الفني او الادبي في اطار موضوعي منطوٍ على وجهة نظر محورية يريد الكاتب او الشاعر او الفنان او المسرحي او التشكيلي او حتى الموسيقار ايصالها الى المتلقي-عفواً أو قصداً-ولسنا بصدد محاصرة المبدع بجغرافية موضوعية او ايديولوجية من اي نوع,كلا,فالمبدع بكامل حريته التعبيرية والفكرية ايضاً,فبالحرية نصنع التنوع والتميز,وبهما نمنع اللوك والتكرار والاستنساخ الموات,فهذه ليست دعوة الى عقلنة الإبداع مطلقاً،انما هي دعوة الى وضعه على سكة المعرفة بعيداً عن الافعال العشوائية الخاوية.
انما نؤكد في ذات الوقت ان بعض الافعال التلقائية او العفوية قد تكتنز بزخم تحليلي سايكولوجي كبير,كماهي حال الاعمال الابداعية السوريالية او تيار الوعي-اللامعقول-التي تتمنهج التداعي الحُرأو التلقائية أصلاً,ولكنها تحتاج الى سابر يملك مهماز القراءة الاستنباطية والاستبطانية الواعية المتشوفة.إن موضوعة حرية التعبير الابداعية خاصة,لا تتحمل التفريط اطلاقاً,لأنها واحدة من اهم اسباب اكتناز النص بالحيوية المدهشة,لشدة ارتباطها بشرط المصداقية البالغ الضرورة هو الاخر,ولكونها مدعاة لأعلى احوال البسالة والجرأة الإبداعية الإستبطانية الكاشفة.بيد أننا لسنا مع الإفراط في نفس الوقت,ليس بقصد التقييد والإلزام الشرطي,وليس بمعنى محاولة خلق كوابح وموانع فضلاً عما في الواقع اصلاً,وانما بقصد خلق نوع من التظافر بين مفردات الدخيلة المبدعة.فالنفس وحدها قد تشتتنا عن الهدف ,والفكر المحض قد يكبح حريتنا ويقيدها حد الخنق احياناً,والغرق في التعبير المثالي عن احوال الصلة بالميتافيزيقيا,قد يمنع النفس والجسد والنشاطات الشعورية من ضخ اكبر قدر من النشاط الحيوي في بنية النص,وهذا حال خطير قد يخرجنا من المناخات الفنية والادبية الى عوالم العرفان او التصوف .ومع ان كلا الطريقين ينتهلان من الإشراق,او ينتميان اليه,ولكن الفصل بينهما امر يحفظ لكل منهما خصوصيته وطريقته المتميزة في البحث المعرفي عن الحقائق.
وحافزنا من وراء هذه المطالبة بعضُ قلق يساورنا مما نشهد عليه في الساحة العربية من المزاولات المجوفة اوالهلوسات الفارغة من المحتوى,فعلى مقدار ماتتمع به موضوعات واطاريح النصوص من اعتبار معرفي سيكون تقييمها موازياً او مكافئاً لهذا الإعتبار نفسه،لكن بشرط توافر عناصر المركب الحيوي الابداعي الاخرى, ذات الصلة بالنوع الفني او الجنس الادبي،أما عكس ذلك فسيخرج النص عن إطاره الابداعي وربما يدخل في إطار معرفي آخر.ولابد بعد ماقدمناه, من بيان فهمنا لمعنى العقل لكي تكون مادة طرحنا واضحة تماماً,ومن اجل ذلك نقول مايلي:
"ان العقل لايعني موضعية الدماغ البيولوجية كما هو شائع عند العامة,ذلك لأنه ليس جزء فسلجياً عضوياً ابداً,لأن اصطلاح العقل يعني الوصف الجمالي لتحويل الارهاصات الشعورية والرؤيوية والفكرية من منطقة القوة الى منطقة الفعل.هذه الارهاصات لاتختص بالتحويل الابداعي الادبي او الفني,وانما تمتد لتشمل جميع الفعاليات المعرفية والسلوكية معاً,فالموهوب مشمول بالتوصيف وغيره كذلك,وعلى اساس نوع وطبيعة ومستوى هذا التحويل سيكون هذا التوصيف,وباختصارمبسط,كيف يتصرف الانسان قولا وفعلا فهو بذلك يعبر عن مستوى عقله ,وبالتالي مستوى جماله المتبلور او المنعكس عن طبيعة هذا السلوك او التصرف المشار اليه,وذلك يعني ضمنياً :كيف يعبر الانسان عن نفسه,وهذا مايطل بنا على اعمق واجمل وسائل التعبيرالمعرفية والابداعية.علماً ان الأمر متعلق بالقدرة التحويلية لكل انسان,وخاصة ممن يمارسون الأفعال الابداعية بأشكالها واجناسها وطرازاتها المتنوعة.هذه الحال ستنطبق الى حد كبير على طبيعة توصيفنا للفعل الابداعي الصادر عن المبدع ذاته باعتباره معبراً عنه,او عن نوع وطبيعة ومستوى عقله الجمالي كما اسلفنا".
ثانياً:
"البــعدالنفــسي"متمــــثلاً بالشــــعور بكافـــــة تفاصيله :من الاحاسيس،والعواطف،وكل مايتعلق بالنشاطات السيكولوجية المنشأ من التفاعلات والإستجابات الشعورية المبثوثة عبر النص الإبداعي بمختلف تنويعاته،كونها تمثل سر حيوية النص في جانب،كما وانها الدليل الاكيد على انتماءه الى حقل الابداع الفني ومنه الادبي كما قدمنا انفاً.ولعلاقة النفس البشرية خاصة بالجسد واستجاباته ومحرّضاته،كونها- ونعني النفس- متعرشة في اخص تفاصيله،وهذا ماقصدناه في "أولاً"،بخصوص ارتباط الابداع الفني عامة والادبي خاصة بعناصر المركب المعني بالحديث.ولقد اجمله احد نقاد الغرب,ربما يكون فيشر,اذا صدق ظني برؤية شهيرة تقول:" اعظم الشعر ماكتب بالجسد كله",وهو لايقصد الجسد بمعناه الفسلجي الحسي فقط هنا, وانما يتجاوزه الى ماينطوي عليه.وما اروع مناسبة البيت المنسوب الى الإمام علي(ع)لهذا المقام،حيث يقول موجهاً خطابه للانسان:
" اتحسبُ انّكَ جُرْمٌ صغيرٌ
وفيكَ ٱنطوى ٱلعالمُ ٱلأكبرُ"
ويدخل في هذا الإطار كل مايتعلق بالبعد الروحي العميق ،وله هو الآخر وجهان,اولهما: مايصطلح عليه علم النفس والنقد الحديث اسم " الذات العليا اوالذاكرة العميقة في اصطلاح آخر",وهو جانب شبه اتفاقي,ولكننا نختلف معه بشئ نراه غاية بالأهمية،كون الذات العليا عندنا اعمق واكثر دفانة من الذاكرة العميقة التي يحصرها فرويد بالليبيدو او مركز النشاط الجنسي.واختلافنا يتلخص بكون الثانية موضعية تفصيلية،تشكل المخزون الذاكراتي الخبئ والمعلوم في آن واحد.وقد يكون أقرب الى المحور السيــــكولوجي الجسماني منــــه الـــى الروحي المثالي.فالنفس شقّان ،حسّي شديد الارتباط بالجسد حد الالتصاق.بينما ينأى الوجه الثاني بعيداً عن الحس المباشر،لانه في الحقيقة يمثل الجانب الروحي من عناصر الدخيلة الفاعلة,هذا البعد الذي يشتمل على الضمير على وجه الخصوص،ولكن ليس بمعناه الأخلاقي والعرفي ذي المنشأ الإجتماعي، وإنما الذي يمثل الجانب المثالي العميق الغور.والذي يهمنا اكثر هو تجليات هذا الضمير بٱعتباره بوابة الرؤى والكشوف ذات المرجعية الإشراقية النابعة من اعماق الإنسان الأقرب الى منافذ الإلهام الحقيقية وهي غير الذاكرة العميقة،المتصلة بالمخزون الواقعي والتاريخي للفرد والجماعة،وإنما هو الذات العليا ،من ناحية صلتها بالماوراء الميتافيزيقي ,ولكن هذا الأمر يحتاج عند الخوض فيه الى نوع من الإيمان بالماوراء الغيبي,سواء ماتعلق منه بماوراء الجسد,او ما وراء الطبيعة,بحيث لا نتوقف عند قول من يقول انّ ما يجري خلف الجسد ,ليس اكثر من تفاعلات كيمياوية او بيولوجية او فيزيقية,فمثل هذا التصور سيخنق مساحات الافق المفتوحة على افاق المعرفة الهائلة,مكتفين بمانرى او نلمس او نحسه بالحواس.فمن يكن هذا اعتقاده غير معني بحديثنا ,لأنه لايستطيع ان يتفهم او يستوعب مقاصدنا الواسعة النطاق,على الاقل بما يجعلنا قادرين على الإغتراف من المنهلين الضروريين للعمل الابداعي الفني ,جسداً وروحاً,آملين مقاربة هذا المحور تفصيلياً مستقبلاً ايضا إن شاء الله تعالى,ولكن لكي تتكشف فكرة الضمير اكثر ،نقول:
لقد استوقفتنا طويلا الآية الكريمة التالية: (يوم تأتي كلُّ نفسٍ معها سائقٌ وشهيد)(1),وبغض النظر عن اختلاف المفسرين واصحاب النظر حولها,فما ذلك موضع اشتغالنا اصلاً,انما لا بأس من لطف التأمل,وحسن الإصغاء,في محاولة لفهم اسراروطبيعة مكونات الدخيلة الإنسانية على وجه الخصوص,وبالتالي ماهي طبيعة فاعلية هذه المكونات او العناصر في موضوعة اشتغالنا,ونعني بها عموم المنجز الحضاري ومنه الثقافي وصولاً الى المنجز الفني والأدبي الذي هو موضع تركيزنا وتخصصنا؟,لذلك سنقتطف من المعاجم والتفسيرالمقال التالى"ان السائق هو الذي يدفع قطيع الابل من الخلف,بينما يكون القائد في الأمام,فشغل السائق الحث والدفع الى امام,وشغل القائد التقحم والاستقدام والاستحضار",ولا بد من وقفة بازاء كل مفردة تم تناولها في سياق هذا المقال.
ولأننا قد ارجأنا الحديث التفصيلي حول هذا الموضوع البالغ الأهمية الى الجزء الثاني بعونه تعالى ,لهذا فسوف نكتفي حالياً بما يلي:
انّ الضمير الذي نقصده هنا ,هو منفذ الإنسان الى ماوراء الطبيعة،فمن خلاله يمكنه الاتصال بنسبية مختلفة بحسب مستويات الصفاء والشفافية بعوالم الملكوت التي ينهل منها الرؤى والكشوف والعرافات والنبوءات ،وهي اعمق انواع المنجز الإبداعي والعرفاني،اذ يشترك السعاة والسالكون في تحصيلهم على لوامحهم ولوامعهم ولوائحهم وطوالعهم ورؤاهم وتجلياتهم وكشوفهم وعرافاتهم ونبوءاتهم بهذا الموئل،الذي يطل بهم جميعاً على مالايراه الآخرون،ولكم ردّدنا مقولة النقاد القائلة: الشاعر يرى ما لايرى غيره، كإنموذج لجميع من ذكرناهم من السعاة آنفاً.ولكن العرفانيين ،ومنهم اصحاب الفكر الصوفي لاينهلون من البعد الحسي،وربما يحذرونه او يتحاشونه كثيراً،الا اذا كان معبراً عن "الحب او العشق الإلهي" كما يصطلحون عليه,وهو ما يتجلى واضحا في الشعر الصوفي والعرفاني واشعار الزهد والتنسك المعروفة بحكم ضرورة وجود المشاعر والاحاسيس فيها.
وخلاصة الحال ان كل نص ابداعي لا ينطوي على كل ماذكرناه من عناصر "المركب الحيوي"المطابق او المماثل جزئياً اوكلياً فإنه سيخسر اعتباره الابداعي بكل تاكيد.ذلك لأن الفعل الابداعي بتفاصيل اجناسه وطرازاته ،ليس لعباً مجرداً،ولا لهواً أخرقاً،وانما هو طريق بالغ الأهمية من طرق المعرفة ،ولربما يكون الاقرب والاسرع ،ولكن مع توافر تفاصيل ما ذكرناه،في اعلاه.
بقيت علينا الإشارة الضرورية الى مادة نظرية تم استلهامها من الكتاب الكريم تتعلق بتعريف وطبيعة مفهوم الصورة " المبنى الظاهر المكتنز والقابل للفهم والتصور" والذي لايخرج عن رؤيتنا لمطابقة النص مع الإنسان كوحدة للقياس الفذ- اذا جاز لنا التعبير- بٱعتباره الكيان الجمالي الحيوي المتكامل ،مع الأخذ بنظر الإعتبار ناموس النسبية الذي يشتمل على مستوياته وتدرجاته،فكما انه ليس كل الاناسيّ بنفس المستوى ،لافي الشكل ولا في المضمون،فكذلك الامر بالنسبة للفعل الابداعي.وقد يهبط بعض البشر الى كائن حي ادنى،فادنى ،حتى يُرد الى " اسفل سافلين" ،فكذلك الابداع ايضاً.فإما المعراج الى باب الحقيقة،بما يصعد بالفعل التعبيري الى مستوى التقابل مع الحقيقة المحمدية الكبرى كما هي حال القرآن الكريم الذي هو اسوة المبدعين وقدوتهم العظمى ,واما التراجع الى قاع التسفيل الادنى.
فمن اراد "المحاكاة"فأمامه التحديات الثلاثية الكبرى" العالم, القرآن الذي يقابل العالم بالتمام والكمال ,ثم محمد .ص. متمثلاً بحقيقته،كونه "الإنسان الأعظم"،الذي يقابل القرآن كما ويقابل العالم بالتمام والكمال كذلك.ولهذا المشهد المعرفي شروحاته التفصيلية ايضاً." مع العلم أن هذا الامر يطل بنا على تعريف القرآن الكريم للصورة عامة،ذلك التعريف الذي يمر على كثير من الناس مرّ السحاب،دون ان يلتفتوا اليه الا الثلة المتبحرة المتبصرة،ونعني به ما ورد ضمنياً في الآية التالية:
(يا أيُّها الإنسانُ ما غرّكَ بربِّك الكريمِ الذي خلقَكَ فسوّاكّ فعَدَلكَ ،في أيّ صورةٍ مّا شاءَ ركّبك). (2)
وما يخصنا منها محورياً,ان الكائن الأعظم ونعني به الإنسان، مخلوقٌ,مُسَوَّىً,ثم مُعَدّل,ثم يتشكل بهيئة تكوين او صورة حيوية مفعمة, وهذا كله مايتوجب ان يجري على النص الابداعي قبل اطلاقه او نشره.
ومع اختلاف تعريف الصورة الإبداعية عموماً ،والشعرية خصوصاً، شرقاً وغرباً،قديما وحديثاً،ولكن جميع التعريفات تؤكد على أنها فعالية تعبيرية جمالية،لابد من توافر عنصري الزمان والمكان في جميع تفاصيلها،ولكن مانود التأكيد عليه هو ان هذه الفعالية التصويرية التي تجري عند تحققها في زمكان معين يتوجب ان تكون مكتنزة بعناصر المركب الحيوي الذي يمنحها النضج والجمال والحياة والقدرة على التاثير.
هذا الفهم يخص كل انواع الاداء التعبيري العام- ولا نعني الشعر فقط ,فالرواية صورة ،والمسرحية صورة،والقصيدة صورة ،واللوحة الفنية صورة..الخ.ولا ننسى ان الصورة الكلية ونعني كامل النص،هي الصورة الكاملة التي تشتمل هي الاخرى على صور تفصيلية داخلية في داخل إطارها,بالضبط كصورة الانسان الكاملة ,وصورة يده او عينه او شفته التفصيلية التي تندرج في اطاره.
كما وإن الصورة فعالية تستلزم الجغرافية اوالمكان،اذ لا معنى لها بلا رحبة او موضع تقام عليه بما فيها ذات الاداة التعبيرية,ونعني اللـــغة,او خشـــــبة المســــرح, أو اللوحة التشكيلية,اوشاشة السينما.
الصورة الابداعية اذن: "فعّالية زمكانية تاريخية مكتنزة بالمركّب التعبيري الحيوي".وستكون لنا معها وقفة تفصيلية ايضاً بعونه تعالى,ولانجد بداً من التأكيد على ان هذا التعريف لايتقاطع مع الوارد من التعريفات السابقة والمعاصرة,ومن ابرزها تعريف اليوت مثلاً,الذي يرى ان الصورة "تعبير عن عقدة شعورية او ذهنية",وليس فيما يقوله ايّ غلط,وانما اردنا من تعريفنا الاحاطة والاشتمال,وليس التخصيص.فالتعاريف متكاثرة تكاد تتوزع على عشرات المناهج والمدارس الفنية عامة والادبية خاصة.
ولا بأس بعد ذلك ,من التعريج على ان ما يطلق عليه النقاد والباحثون اصطلاح "الإرهاص " بقصد التعبير عن مجريات إجالة الفكرة مُدْمَجَةً بجملة النشاطات الخبيئة في رحبة الدخيلة الإنسانية, وهي مرحلة ما قبل انجاز النص،اي ماقبل اطلاقه الى خارج الجسد الإنساني في لحظات البوح المعروفة ،وهي بالذات ما نسميها "مرحلة فعاليات القوة"،اي المتصورة بالذهن احساساً بمجرياتها في الدخيلة قبل تحويلها او التعبير عنها بادواتها المناسبة،على أن تجري فعاليات القوة وفق نوع من التواشج الوحدوي ،بحيث لايخرج الفعل مشتتاً او متشرذماً،وانما في وحدة موضوعية ناضجة،والّا فالواجب النقدي يستلزم كشف هذا التشتت والتوزع والتشظي.اما بعد العثور على مايناسب ارهاصاتنا من ادوات التعبير كبنية حمل لما اصبح جاهزاً من الرؤى والكشوف والمضامين والأحاسيس والمشاعر ،فتلك المرحلة المتحققة التي امست بين ايادي المتلقي او تحت انظاره هي ما نسميها " مرحلة الفعل".وهذا يعني ان مرحلة القوة تجري قبل اطلاق الكامن ,وان مرحلة الفعل تحصل بعد اللقاء الممكن ،وصيرورته كمحمول في دخيلة ادوات التعبير المتنوعة كمتحقق ينتظر التأثير والتاثر من خلال معادلة الإبداع المعروفة بين المبدع والمتلقي.
ولابد ان نذكر اننا عرضنا لهذا المبحث هنا لغاية التمهيد له،بغية الخوض في تفاصيله في الجزء الثاني بإذنه تعالى,وهذا العرض - تكراراً-لايعني المباشرة باستخدامه الآن في مطالعاتنا للنصوص الواردة في هذا الجزء،وانما هو آليتنا للقراءة وللكشف مستقبلاً ،مع التاكيد على انه طريقة او زاوية نظر ،لايحق لنا فرضها على احد،خاصة ونحن بأنفسنا احرار في استخدام كافة المناهج النقدية بجميع انواعها،كلما اقتضت الضرورة لذلك.فكل منها مصباح دلالة وضوء كاشف وزاوية نظر يمكن ان توصلنا الى قراءة الفنون والآداب قراءة لا تبخس ولا تُغالي.
ولمّا كان تركيزنا على الشعر على وجه الخصوص هنا, فلا بد من الاشارة الجديرة الى ان جميع تنويعاته مقبولة عندنا بعيداً عن عُصاب الحوار او أدلجته بطرق ووسائل منحازة مُغَلّفة او مكشوفة،ولاشرط عندنا على اي نصٍّ شعريٍّ موزوناً كان أو غيرموزون سوى ٱنتمائه الى الادبية ،وانطوائه على الشعرية التي تحدث عنها ارسطو طاليس منذ أقدم العصور،واهم مافيها كما نفهم ونعتقد هو أن يفكر المبدع عبر دخيلته المحتشدة بالمشاعر والعواطف والاحاسيس في اطار قيمي انساني جمالي حيوي،فضلاً عما تستلزمه الضرورة من الوحدتين الموضوعية والعضوية ،لان النشازات والحشو الزائد والبعثرة التي تجعل النص متناثراً امر ليس لصالح الفعل الابداعي كما هو معلوم ايضا ،ولقد اشر ذلك ارسطو نفسه حيث يقول مافي معناه"يجب اذن ان نتصور عملاً واحداً كاملاً ترتبط اجزاؤه ارتباطاً وثيقاً،حتى لو ان احدها استُبدل به غيره او نُزع من مكانه،لتفكك الكل جميعه او تبدل,ذلك ان كل شئ يُستَبقى او يُنزع،دون ان يحدث وجوده او عدمه فرقاً ملموساً،لايكون في الواقع جزءً من الكل(3).
وهذا طبعا معيار مهم من معايير النص الابداعي النازع الى التكامل والذي على اساسه مع كل ماذكرناه آنفاً تتم محاكمة النصوص تقييماً أوتقويماً.بقي القول ان لمفهوم الإلتزام عندنا تصور خاص ايضاً،خلاصته تتجسد في ان يكون هدف الابداع انسانياً عاماً،بعيداً عن اي نوع من انواع المحاصرة الايديولوجية.ذلك لأن مراعاة حرية المبدع الى اقصاها ،تشكل اكبر حافز على الإبداع،لاسيما سعة الآفاق التي سيتحرك في رحبتها المبدعون.ونعني بها ثلاثية الآفاق التالية:
1-الأفق الأول" ماوراء الطبيعة."
2-الافق الثاني "الماوراء السوسيولوجي".
3-الافق الثالث "الماوراء السيكولوجي".
هذه الآفاق كلها مفتوحة امام المبدعين ،ولايحق لأية ايديولوجيا ان تقطع الطريق على احد,بحجة عَقَدِيّةٍ مأزومة بالعصاب الجاهلي,مهما ارتدى من ثياب تدعي العصرنة او المدنية او التحديث الملتبس.
الموقف من الطرازات الشعرية:
انطلاقاً من كل ماذكرناه في اعلاه نقول إجمالاً إن الشعر الموزون المرتبط بالعروض الفراهيدي بشقيه "العمودي" و" التفعيلة" " وقصيدة الومضة العمودية ذات المنشأ القديم,ونعني بها قصيدة البيت والبيتين والثلاثة ,في جانب,وكذلك ما اصطلح على تسميته بـ" قصيدة النثر " ومضة كانت او طويلة ،هايكو او نانو ،او حتى ما اصطلحت علية مجلة " شعر" عبر إنسي الحاج وبعض زملاءه مثلاً اسم القصيدة الالكترونية او أي كشف تنويعي اخر يستجدُّ على ساحات الفعل الابداعي ،كلها جميعا تحضى باحترامنا وتقديرنا ،ولا شبهة لنا على ايِّ منها فيما اذا تحققت فيها اشراط الادبية والشعرية المشار اليهما انفاً.وليس هذا موقفاً وسطياً منا ،كلا ابداً،وانما جاء انطلاقاً من فهم خاص نرفض من خلاله محاصرة الشاعر بشكل او طراز او حتى فهم محدود يمكن ان يحدد او يقيد من حريته في الاختيار او في الانهمار،حد الايمان بأحقيته في مزوالتها معاً جميعاً بحسب احوال ومزاج اللحظة الشعرية الراهنة التي تفرض مناخاتها وطقوسها وخياراتها النوعية بحسب نوعية الارهاص وطبيعة الميقات.خاصة وانها جميعا يمكن ان تحمل جزئياً او كلياً ما يحمله الطراز الآخر من إرادات الشاعر واحاسيسه ومضامينه.
علماً ان رؤيتنا او لنقل زاوية نظرنا لتعريف الشعر الموروث تختلف نوعا ما في محاولة للبحث عن تعريف اكثر مرونة واشتمالاً واوسع مداراً,بحيث يمكنه ان يستوعب كل التمظهرات الشعرية التي تستجد مع الايام، ومختصرهُ يتجسد في ان الشعرية التي تحدثنا عنها قبل قليل ،وان كانت تتجلى واضحة في الشعر الموزون والمموسق بانواعه ،ولكنها يمكن ان تنبض واضحة ايضاً في النثر المموسق او حتى غير المموسق ولكن بشرطها وشروطها وأهم هذه الشروط انطلاقها من الفكر الفني المخصب باعماق الشعور الانساني،فطريقة التفكير الفنية ذات خصوصية خاصة جداً،وهذا يعني التفكير بمجسات الاحساس ذات المنطلقات النفسية او الشعورية العميقة وليس العقلنة الذهنية المجردة المحضة.ولاريب ان هذا الموضوع بالذات يحتاج الى ميقات اخر للايضاح،ولكننا نذكر عاجلاً بان بعض ما اطلق عليه اصطلاح الشعر جزافاً وانطلاقا من التعريف الموروث ليس شعراً في حقيقته حتى وان كان موزوناً على اساس بحور العروض الفراهيدي المعروفة ،والحمد لله ان النقاد العرب القدامى قد حسموا هذا الامر منذ اكثر من الف وخمسمائة عاماً حين اطلقوا على الموزون الخارج عن الشعرية اصطلاح "النظم"،كما هي الحال في جميع المنظومات ذات المضمون العلمي كألفية بن مالك والفيات المواعظ والفقه الديني مثلا،والتي ثبت من خلالها ان مثل هذه المنظومات بعيدة كل البعد عن الشعر والشعرية التي ترتبط باعماق الشعور الانساني محورياً،ومن علامات ذلك ان التهمة الجاهزة لكل من يكتب القريض بعقلنة اوحسابات عروضية سنتمترية لاحياة فيها بان ما يكتبه مجرد نظم وليس شعراً, حتى وان كان موزونا.
هذا يعني ان تعريف الشعر الموروث بأنه "الكلام الجميل الموزون المقفى" بات في دائرة الحرج لانه يحمل نقيضه في داخله كما اسلفنا ،وحتى كلمة,الجميل,لاتفسر ولاتبرر هذا التعريف بحيث تنقذه من دائرة الحرج خاصة وان كثيراً من انماط وتنويعات الكلام يمكن ان يكون جميلا وهو ليس شعراً ولم يقصد به الشعر اساساً،فالخاطرة جميلة باشراطها،والقصة والرواية كذلك،ولايمكن حصر الجمال بالشعر وحسب ابداً.
غاية الامر ان كلمة شعر ذاتها مستنبطة او مشتقة من الشعور ،والشعور يعني تفاصيل الاحساس الانساني المعبرة عن استجاباته وتفاعلاته وانفعالاته بل وحتى رؤاه المنبعثة من اعماق الذات العليا او من بوابات الضمائر الملكوتية الاتصال.وهذا لايمنع ان يكون الوعي مشرفاً في التاطير وفي التبويب وفي التصعيد وفي البلورة بحيث لايتدخل في تلقائية الانهمار الشعوري الذي نفترض أن يكون شجاعاً بمعنى الجرأة الابداعية الباسلة التي تجعل من المبدع وابداعه معاً مشروعاً فدائياً من نوع ما للتحليل واستنباط الحقائق الروحية والنفسية الدفينة وانتزاع اعماق الرؤى التي تصلح للقياس او لقراءة سيكولوجيا الفرد والجماعة بحثاً عن حياة افضل.وليس هذا وحده ميدان الفن والادب ،فنحن نؤمن عميقاً بوظائفه الواسعة النطاق الاخرى كالادانة والاحتجاج وكل مايرتبط بشؤون المبحث المعرفي ,فضلاً عن إضافة بهاء جديد على الحياة.ومن المتفق عليه ايضاً,ضرورة الكثافة المغنية في الشعر خاصة,بما لا يجعلها مخلّة او قاصرة ,اذن,مالذي يجعل الكلام فناً؟.
هذا السؤال يُعنى اساساً بحقيقة وجود الشعرية -كما نفهمها- فعليا داخل النص الابداعي الشعري ،ولسنا بصدد كيفية البحث عنها او طريقة دراسة النص بوسيلتها كآلية للبحث كما يلمح الى ذلك الناقد اللساني الشكلاني المعروف رومان جاكوبسون،الذي يبحث في الاجابة عن السؤال التالي "مالذي يجعل من رسالة فنية ما أثراً فنياً,(4)بمعنى ما الذي يجعل النص الكلامي مثلاً فناً وليس غيره من الاساليب الاخرى؟,باعتبار ان جميع الاجناس والطرازات الادبية جزء لايتجزأ من الفن،وهذا المفهوم ذاته هو الذي تلقّفه تودوروف بعد حين ولكنه قام بتفعيله كوسيلة وآلية للبحث عن الشعرية داخل النصوص ،وقد نجح بذلك نجاحاً ملحوظاً فهماً وامثلة فهو يعتقد انها- ونعني الشعرية-تعني" طبيعة وخصائص الخطاب الادبي وكيفية اشتغاله ،بوصفها تمظهراً لبنية مجردة وعامة في نفس الوقت ". هذا المفهوم ذاته لايخرج عن فهمنا لعموم الظاهرة النثرية والسردية عموما.وعليه فإن اشتراطنا وجود الشعرية داخل النص لايتقاطع ضمنياً مع امكانية البحث عنها بوسيلتها في داخله.ولكننا لسنا بصدد ذلك الان,كون ما يعنينا في هذا التقديم هو بيان سبب قبولنا لجميع الطرازات الشعرية من دون استثناء،بعيداً عن المواقف الاستاتيكية المسبقة.
وهذا يجعلنا نتقبل بكل اريحية احتمالية وجود الشعرية في السرد ايضا ،بشرط الكثافة والابتعاد عن التقريرية الجافة بل التفكير بالذات العميقة وبالرؤية الدفينة بما يجعل النص مكتنزاً بالمشاعر والاحاسيس والعواطف والانفعالات والتفاعلات والحدس والرؤى والكشوفات وكل مايتعلق بالمجس النفساني للبشر بشقيه المشار اليهما في اعلاه.
نخلص من كل ذلك الى ان كلمة الشعراو الشعرية ذات ارتباط وثيق لا سبيل لفك ارتباطه بالشعور باي شكل من الاشكال,فالشعر مشتق من الشعور,سواء اصَدَرنا عن الفعل الثلاثي او صَدَرنا عن المصدر.وقد صار الشعر شعراً اصلاً لانه وليد الشعور الانساني، مختص بالتعبير عنه، موزوناً كان او غير موزون،ولكننا نقر انه سيكون أعذب واروع وأقرب الى القبول في الاداء والقراءة والسماع اذا كان مموسقاً ،انما بكل انواع الموسيقى ،عروضاً عمودياً ،او عروضاً تفعيلياً ،او حُرّاً منغماً او نثراً مرسلاً او إيقاعياً او سلسالاً من النثر المتصل في وحدة تعتمد الوصل بين اجراس المفردات بشكل متعاقب متحد جزئياً او كلّياً،ومع ذلك لايمكن ان نستبعد حتى غير المموسق من جمهورية الشعر اطلاقاً مادام ينطوي على روح الشعر الحي,فقد توسع امر الشعرية الان بحيث بات البحث عنها وارداً حتى في النصوص الروائية حد ان يعتقد البعض بنوع من الفضل الذي تقدمه الرواية للشعر ذاته.ولكم كتبت على هذا الصعيد روايات شعرية منها مثلا روايات الكسندر بوشكين الروسي،ومسرحيات شكسبير الكثيرة ومسرحيات اليوت ايضا,على سبيل المثال.
حول اصطلاح " قصيدة النثر":
مما تقدم نستنبط بكل يسر أحقية قصيدة النثر في الانتماء الى جنس الشعر بشروط الشعرية التي ذكرناها انفاً.كما وان بعض انواع الموسيقى الدفينة التي تكتب عليها قصيدة النثر لايمكن وصفها بسهولة بحيث تكون محسوسة للجميع ،انما يحسها بكل تاكيد من وصلت عنده مستويات الاذن الموسيقية الى حدود الرهافة ،فهي كما يعبر عنها احد النقاد "ان غرائب الاسلوب ليست شيئاً،وانما العبرة بتلك الموسيقى التي لاتوصف،والتي ماهي الا نغمات نفس".وياله من مركب عميق ودقيق هذا الذي اسماه نغمات نفس, حتى لأكاد أجزم أن لكل نفس بشرية ايقاعها الخاص جداً،والذي قد يكون متحداً في حال السواء النفساني مع الايقاع الكوني الواحد،وقد يكون ناشزاً،في حال التعرض الى اية ظاهرة مرضية ذهنية او سيكولوجية على وجه الخصوص.
من هنا فإن عبارة العرب القدامى" قصّدَ القصيد" لا تعني بحسب فهمنا كتابة الشعر الموزون فقط،وان كانوا يهدفون الى ذلك،بحكم طبيعة الفهم السائد بل الشائع آنذاك.
ولكن هذا السائد ليس طوطماً تتوجب علينا عبادته،او الثبات عليه.اصلاً تعريف الشعر القديم برمته صدر عن شخص ما في زمن ما ثم أقرَّه عليه من جاؤوا بعده ،وهم على حقٍّ فيما ذهبوا إليه بحدود الزمن المَعِيش.ولكن المبتكر المتجدد والمضاف المتعدد ،يستدعي إعادة النظر كما قدمنا سالفاً,وإلّا فماهي علاقة كلمة القصيدة بكلمة العروض او الوزن الا بحدود كون الشعر الموزون من القصيد،ولكن ليس كل قصيد موزون,خاصة بعد الكشف عن موسيقى الكلمة وموسيقى التركيب واخيراً موسيقى القصيدة التي تتألف من وحدة اجراس المفردات.فالنص الشعري المتكون من تآلف اجراس كلماته نص مموسق،ولايخضع لعروض الفراهيدي المعلوم.
ان اغرب مالاحظناه خلال الحقبة الاخيرة اتهام النص الخارج عن العروض الفراهيدي بالانتماء الى ايديولوجيا غير مؤمنة؟!,وانه توجه مضاد للدين؟!. عجباً والله.وماعلاقة الشعر الجاهلي المكتوب بصيغة البحور الستة عشر بالمسالة الدينية اصلاً؟,اليس القرآن الكريم هو النص السماوي النثري المرسل الذي رفع النثر الى مقام السيادة الكبرى باعتراف الجميع؟!.
والاعظم من كل ماذكرناه ان إعجازاً كبيراً لم يكشف عنه أحد بحسب علمنا حتى اللحظة -بالمعنى الذي نقصده تحديداً- يتعلق بكون الكتاب المجيد كله في مدور موسيقي كامل بدء من باء بسملة الفاتحة مروراً بسورة الناس ثم عبوراً تلقائياً الى الفاتحة وهكذا دواليك من دون فجوة ابداً ،بشرط اتقان احكام التلاوة بشكل دقيق مع مراعاة الحركات الإعرابية بشكل متقن ،لنكتشف ان وحدة ايقاعية موسيقية كاملة تعتمد بالاساس على اجراس المفردات القرآنية الشريفة وتواشج اواخر الكلم واواخر اصوات الحركات الاعرابية مع ما بعدها من الحروف الاولى للمفردات اللاحقة لها تباعاً,فمن اجاد القراءة او الترتيل او التجويد فإنه سوف يتفهم هذا الكشف بكل يُسرٍ وسهولةٍ,مع تأكيدنا المتكرر على اتحاد الايقاع القرآني مع الايقاع الكوني الموحد اصلاً بالناموس الموسيقي الكلي.فنحن نعتقد ان العالم كله في وحدة موسيقية واحدة لا نشاز فيها مطلقا,فمن ان اراد الاتصال ابداعاً وسلوكاً فطريقه سالكة عرفاناً وابداعاً وسلوكاً بحسب قدرته على توحيد دولته الداخلية وعناصر مركبه الحيوي, بحسب طاقات عقله الجمالي.
وعوداً على مادة تركيزنا نقول : ان هذا الكشف المتعلق بموسيقى الكتاب السماوي الكريم نفسه ,يمنح الخطاب النثري في حال اجادة الشاعر بالاعتماد على ربط اجراس المفردات مع بعضها نوعاً واسع النطاق من الموسيقى الحرة الفسيحة المتنوعة غير المقيدة بحدود مسبقة ،وانما ترتبط وثيقاً بسيكولوجيا كل شاعر على حده ،بحيث يكون لكل شاعر وربما لكل قصيدة موسيقاهما الخاصة التي تميزهما عن غيرهما في ديمومة لانهائية متواصلة من المخلوقات الابداعية الجديدة.ذلك لان لكل شاعر بنية نفسانية خاصة تنتج عنها رواية داخلية خاصة وهذا ما يُوَلّف منظومة دينامية فاعلة قادرة على الخلق الابداعي النوعي المنتج لمجموعة من السمات التي تشكل بمجموعها خصوصية الشاعر وبضمنها موسيقاه المميزة الخاصة بشرط الاصالة البعيدة عن اي نوع من انواع الإتكاء التعبيري او الموسيقي على اي شاعر اخر من القدامى او المحدثين.ومازلنا نحتفظ في ذواكرنا بتصور ما او احساس ما او ذائقة ما عن موسيقى جميع المتحققين من الشعراء الكبار بدءً من الملك الضليل ومروراً بكعب بن زهير فحسان فالفرزدق وجرير فابي تمام والبحتري فالمتنبي فابن زيدون وابن هانئ فصفي الدين الحلي فامير الشعراء شوقي فالجواهري فالشابي فابي ماضي فميخائيل فالقروي فالسياب فنازك فالبياتي فادونيس فدرويش فنزار حتى اخر العناقيد وكل من ذكرناه مجرد امثلة بكل تأكيد وليس حصراً,فالمتحققون كثر ولاسبيل لتعدادهم جميعا وليست تلك غايتنا من الحديث فالقصد الدلالة على ان لكل من ذكرنا-كنماذج- في اعماقنا: "صورة,وفكرة,وايقاعاً", حتى لنكاد نرى كلاً منهم في اطارٍ من كيان ذي ملامح تمثله ابداعياً باعتباره مخلوقاً مركباً من الأصل لكن مع المتحقق ابداعيا على يديه.
فالمبدع في كل حقول الابداع لن يبقى كما هو قبل الشروع ابداً في الذاكرة الجمعية ،وانما ياخذ اهاباً مختلفاً يتلبّسه تماماً،وقد تلمسته البشرية من خلال ابداعه نفسه،فمن منا راى ابا العلاء العظيم،ومن منا القى نظرة على هيئة اللورد بايرون مباشرة،ومن منا صافح ارنست همنغواي اوشكسبير او نجيب محفوظ اوجبرا ابراهيم جبرا او لوركا مثلاً؟,فالناس ترى كل هؤلاء الآن وكل المتحققين معهم في عموم هذا العالم المترامي كائنات سوبرمانية خارقة للمعتاد.وهذا بحسب تقديرنا عين الصواب بالمعنى الانثروبولوجي لهذه الفكرة البعيدة المدى حضارياً،ونعني ان الامر ليس من قبيل المبالغة ابداً ،وانما نحن نراهم في عالم الحقائق المعرفية وليس في حالهم الواقعي المباشر.
الموقف من الموروث الحي:
من ذات المنطلق المنحاز الى الشعرية بجميع تجلياتها نرفض رفضاً قاطعاً جميع المحاولات التي وقفت سلباً من الموروث الابداعي الحي والتي ما تزال سادرة للاسف الشديد بذرائعيات دوغمائية في احيان كثيرة.فالبعض يستخدم هذه الذرائع كغطاء تبريري ولانقصد الموهوبين مطلقاً انما نقصد من يحشرون أنفسهم تعسفاً مع المبدعين،كما وأن بعض الموهوبين مختلفون في مستوياتهم وقدراتهم كذلك،وهذا ما كشفه بن سلام في طبقاته قديماً،ولسنا بعيدين عن الصواب اذا قلنا ان بعض الموهوبين لايملكون اذناً موسيقية حتى بالحد الادنى مع انهم قادرون على تقديم النثر الفني المقنع،ولكن بعضهم للاسف الشديد يصطف تورية لعجزه مع المتزمتين .والمتزمتون كما نعلم جميعا موجودون في كلا الجانبين .
ولكن ليس من حق احد باي شكل من الاشكال الدعوة الى رفض الموروث الحي بهذه الطريقة المريبة التي ذكرنا شقّاً من اصحابها ممن وصفناهم بالعاجزين،اما القسم الثاني الاكثر خطورة وتأزماً فهم الذين يؤدجلون الامر بكثير من التعسف وقسر المعطيات حد القفز على الحقائق.وهؤلاء شأنهم شأن من يزعم ان تحديث الابداع خروج عن الدين من دون فرق إطلاقا.ويكفينا للدلالة على بطلان مثل هذه الدعوات سببان محوريان :
اولهما :ان الشعر الموزون لسان امة تقرب من نصف المليار ،وهو يمثل ذائقتها الخالدة العابرة للعصور والجغرافيا والتي ماتزال تعبّر به ومن خلاله عن نفسها كأمّة ذات فهم خاص وذائقة خاصة ولايجوز بحال من الاحوال مسخ او الغاء طبيعة احساسها ذات الخصوصية الخاصة كباقي امم العالم.
وثانيهما:قدرة المبدعين الكبار على شحن وتحديث هذا الموروث بما يمنح متسعته اكبر واوسع المباني بحيث يتحمل- كلما كانت قدرات المبدع عالية الاداء-يتحمل اكثر واعقد المضامين عمقاً ودفانة بالدليل والمنجز العملي الواضح.ولدينا امثلة هائلة العدد على مثل هذا التثوير والتنوير والتوسعة للمباني والمعاني معاً،لاسبيل لحصرها في مثل هذه العجالة، لآن فعاليات التطوير قد بدأت منذ التصعيدات الاولى بعد الاسلام بل وقبله مروراً ببني عذرة فالعهدين الاموي والعباسي ثم الاندلسي وموشحاته ثم المقامات واحوالها ثم النهضة العربية الحديثة منذ القرن التاسع عشر فعصر النهضة فالقرن العشرين وحتى لحظة هذا الحديث,حتى نتج عن ذات التوجه شعر التفعيلة العروضي المعلوم،ولكنه المحدود بالبحور الثمانية ذوات التفعيلة المتماثلة ،بما منح الموزون فرصة اكبر للحضور الفاعل في حيواتنا الثقافية المعاصرة وبقوة باهرة،ومايزال فاعلاً بقوة حتى الان ،وسيستمر من دون شك ابداً.ويكفي للرد على المتقولين ممن لايملكون الاذن الموسيقية خاصة ان نسالهم الأسئلة التالية:كيف سنغني بلا شعر موزون او مموسق؟!,والاتحفظون الأغاني وترددونها جميعا؟!,وكيف نكتب التواشيح والاناشيد؟!,وهل تنازلت الامم في هذا العالم الواسع عن الانشاد والغناء المُنَغّم والمموسق والموزون لكي تتنازلوا انتم؟!,وهل يمكنكم ان تغنوا او توشحوا او تنشدوا سرداً او نثراً؟!
إنّ الشعر الموزون او المُموسق او المُوقَّع او المُنغَّم ضرورة حياتية اجتماعية وحاجة انسانية مدنية ذات تمظهرات شديدة الارتباط بالحياة وبالحضارة الانسانية وتنويعاتها المختلفة،فكيف تدعون الى ما لاتملكون اليه سبيلاً, لضرورته القصوى التي اشرنا اليها انفاً وعند كل امم الدنيا ؟!
وعوداً على ذي بدء نعيد اعتقادنا توكيداً:إننا لا ننحاز الى جنس ادبي او طراز شعري دون غيره البتة, وشرطنا على كل نص هو مدى ادبيته وحيويته الشعرية كما اسلفنا.
لكن خلاصة المقال ان قصيدة النثر يمكن ان تكون شعراً وشعراً عظيماً بكامل اشراط الشعرية فيما اذا التزم شاعرها بما قدمناه، فعلى قدر هذا الالتزام يكون المتحقق كبيراً.كما ونسجل استغرابنا حقيقة ممن يربط هذا الطراز الحداثوي الجميل بجهة ايديولوجية معينة بذاتها،في نفس الوقت الذي نسجل استغرابنا ممن يربط قصيدة القريض بالدين نفسه،وكأن من يسعى لتحديث الشعر خارج عن الدين،او كأن من يعبر عن شاعريته من خلال العمود رجعي ومتخلف وسلفي ،غريب والله .(مالكم كيف تحكمون),ولكنها شنشنة نعرفها من اخزم,إنما لايصح الا الصحيح.
من هذه المنطلقات جميعاً نقول:ان الموقف النقدي غير المؤدلج: دينياً او طائفياً او حزبياً او فكرياً او عقائدياً, في تقديرنا هو الاكثر رقياً وسعة بالدلائل القاطعة ،حتى ان بعض النقاد وانطلاقاً من ايمانهم بحرية الفكر ممثلاً بالمبدعين ،يحاكم النص الابداعي باشراط مدرسته من دون تعسف, وبرحابة مدهشة. فالناس كما اسلفنا احرار يعبرون عما شاؤوا بما شاؤوا وليس عندنا في محاكمة نصوصهم الا الرؤية النقدية العلمية الجمالية الفنية من خلال النزوح بعيداً عن اي نوع من انواع الانحياز الذي يتقاطع مع روح النقد المنصف النزيه .
تساؤلات اصطلاحية حول الشعر والنثر:
هذه العتبة الداخلية لها مقدماتها في اعلاه،وماسنقوله الآن شديد الارتباط بما قبله ،ولهذا سنحاول صياغتها بهيئة سؤال كبير،ربما سيكون اشبه بالمفرقع في السكون.اذ اننا حين تساءلنا عن مدى علمية ودقة التعريف الموروث للشعر العربي ،كونه مختصاً بالشعر العربي بحكم طبيعة سياقاته وأوزانه المتميزة وخصوصياته الإبداعية الاخرى، سنتسائل الان ومن باب اولى عما ياتي:هل من الصحيح الاعتقاد ان اصطلاح الشعر هو الجنس الادبي المقابل لاصطلاح النثر?.اليس في التسليم بهذا التفريق اقرار ضمني بنزع صفة الشعرية عن النثر عموما؟.!اليس الاصل في الاداة التعبيرية الملفوظة هو اصطلاح الكلام،حتى في تعريف الشعر الموروث؟.ومعنى ذلك: هل ان تقسيم الكلام الى شعر ونثر صحيح ؟.
وإجابة على ذلك نقول:نحن لانرى ذلك,لاننا نعتقد ان صفة الشعرية لاتختص بالموزون فقط,بل تشمل غير الموزون ايضاً,وهذا يدل بكل وضوح على ان ما اصطلحنا عليه بمفردة النثر ليس غلطاً بذاته ،بل هو صحيح ولكن من حيث دلالته على غير الموزون فقط ولا يعني استبعاده عن الشعر على وجه الاطلاق,فمن النثر ماهو شعر ايضاً بحكم سمات الشعرية الاتفاقية عالمياً فيه.النثر اذن هو الكلام غير الموزون نعم،هذا كلام سليم وجميل ولاخلاف عليه معجميا،انما الخلاف كبير عليه اصطلاحياً،وكما دعونا الى اعادة النظر بتعريف الشعر،ندعو في ذات الوقت لإعادة النظر في حالة التقابل الموروثة بين اصطلاحي الشعر والنثرايضا.فكما انه ليس كل موزون شعراً كما اسلفنا مسبقاً ،فكذلك الامر ليس كل غير موزون خارجاً عن الشعر بالعكس تماما،لان الكثير من غير الموزون شعر صريح واضح الشعرية بالإتفاق العالمي.اذن فوضع اصطلاح الشعر مقابل النثر مغالطة قديمة هي الاخرى مبنية على تعريف الشعر الموروث.
الخلاصــــــة:
ان الموزون وغير الموزون لايخرج الكلام من الشعر ولايدخله فيه ،الا بشروط الشعرية المعروفة.وعليه فإن الاصل في جميع الملفوظات انها كلام.والكلام هذا،إما ان يكون شعراً او ليس بشعر.ولسنا مضطرين الى ايجاد خصم ما او نقيض ما او حتى اصطلاح مقابل ما ,اذْ يعود الحال الى اصله ونعني به الكلام ،فالعلم كله عند التعبير عنه بالكلام،والادب السردي كله كلام ,وجنس الشعر جنس من الكلام.بالضبط كما نقول :جنس الرواية وجنس القصة وجنس المقالة وجنس الخاطرة من الكلام.فإنْ قلنا سرداً أو نثراً فذلك لايعني الا الكلام غير الموزون وحسب،لانهما قد يكونان شعراً ايضاً..وكلاهما من الكلام حتى في حال كونهما شعراً فهما كذلك ايضا.انما لابد من التأكيد على ان مفهوم السرد على العموم يختص بإلاسلوبية الخاصة بكل اديب في رواية الاحداث او سردها او حكايتها او نقلها من الحياة او الواقع وفق حبكة وبنيوية ترتبطان بالزمكان.ولهذا فالسرد في اصله اسلوبية قصصية او مسرحية تتعلق بالحدث والزمان والمكان وفق تصعيد بنائي محبوك ومحكم.(5)
وعلى هذا الاساس فإن ما نصطلح عليه من جنس الشعر سرداً لابد ان يكون مشتملاً على اشراط او متطلبات السرد نفسه.ولقد لاحظنا غلطاً او وهماً في وصف كل شعر خال من الوزن بالسرد، ولو اكتفينا باصطلاح قصيدة النثر تعميماً لكان أجدى بكل تأكيد ،لان اصطلاح النثر يشتمل على السرد ايضا,.لكن مع تاكيدنا على ان بعض السرد شعر،وبعض الشعر نثر،والعكس صحيح كذلك .اذن فإطلاق اسم السرد على كل شعر منثور خطأ جديد آخر بدأ يشيع في المرحلة المعاصرة الاخيرة.وعليه نقول تكراراً:ليس كل نثر سرداً,ولكن كل سرد من النثر طبعاً.كما وانه ليس كل شعر منثور سرداً الا باشراط السرد المعروفة. فالنثر كلام ,والشعر كلام,لكن الشعر جنس من الخطاب الادبي,وليس مقابلاً للنثر،ذلك لان بعض النثر شعر،سوى انه غير موزون،مموسقاً كان او غير مموسق.ولايقابل الشعر الموزون الا الشعر غير الموزون.وكل شعر غير موزون من النثر بلاشك،انما لكي يكون شعراً يجب ان يتسم بأشراط الشعرية، وإلا فهو جنس آخر من اجناس النثر ،وعلى منتجه ان يبحث عن موضعه ومجال اشتغاله.
__________________________________
1-ق,21.
2-الإنفطار،8،7،6.
-3فن الشعر,ارسطو طاليس,ترجمة د.احسان عباس ص42-43,(ط.القاهرة).
4-جورج ديهامبل: دفاع عن الادب،ترجمة الدكتور محمد مندور ،ص
229-230.
5-بتصرّف عن مقالة المصطلح السردي تعريباً وترجمة في النقد العربي الحديث، د.عبدالله أبو هيف، مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث العلمية، سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية، المجلد 28، العدد 1.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق