الأربعاء، 15 مايو 2019

قراءة في كتاب مقترح : بكائية الوطن ووجع القصيدة: قراءة في ( أحلام السرار الاخيرة ) للشاعر غازي أبو طبيخ الموسوي..

شرّفنا بها فضيلة البروفيسور
الدكتور محمد جواد حبيب البدراني
أستاذ النقد الحديث وموسيقى الشعر بجامعة البصرة
نص القصيدة :
"""""""""""""""""""
******************************
أحلام السرار الأخيرة
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
حدّثتْني خُزاعةُ
حينَ ٱلْتقَينا
على ساحلِ الريحِ
عنْ زَهْرةٍ
نَبَتََتْ في حَنايا الضلوعِ
غَداةَ القُلوعِ
غداةَ جفافِ الدمِ العبقريِّ
هناكَ
واخرِ سفحٍ جريحٍ
بأنَّ ٱبنةََ الصّبْرِ
كانتْ تُصلّي
على قمَرِ البوحِ
كلَّ صباحٍ
وكلَّ مساءٍ
يُرافقُها الحزنُِ والصمْتُ
ناطقةً بالدموعِ
وكانَ دمي
في سرارِ المشيئةِ
يكتظُّ بالشوقِ والتَّوقِ
إذْ رفرفتْ زهرةُ الخُلْدِ
بين الجوانحِ
كانتُ تُهاميةَ القَسَماتِ
وليستْْ مهاةً
وليستْ غزالاً
فذي في كتابِ المدينةِ
رؤيا النبواتِ
إحجيةٌ
تتلفّعُ بالوعْدِ والأمنياتِ
تبثُّ نواجيَها الحالماتِ
وفوق لماها دمُ الفجْرِ:
- ياصاحبَ الوقْتِ
قد بلغَ الحُزْنُ غايتَهُ
فانْتصرْ للحياةِ..
وقد كنت ُمن دهَشِي ذاهلاً
كِدْتُ أنسى جناحيَّ
لولا وميضُ الهيامِ المعتّقِ
أخلدتُّ للارضِ الا قليلاً
فآلفٌ من الجنّ
من لامعاتِ البريقٍ
يراودْنَنِي عن ضَمايَ
ولكنَّ أمواجَ هذا السرابِ
خُتِِمْنَ معاً باليبابِ
وقلبي يُسائلُني الآنََ
- أيُّ الرئامِ التي في الطبيعةِ
تحكي ملامحَها الجَنَويَّةَ
غيرَ صَبوحةِ ليلى
وأيّ المليحاتِ يجرْآْنََ
حتى حكاية بعضِ السماتِ
حُبى والخزامى
دمٌ واحدٌ في الخطابِ
وإنّ الّلواتي تَبارقْنََ
في جريانِ الحُروفِ
تواكبْنَ من عَجَبٍ
خلفَ ذاتِ الرَّشادِ
عُنَيزةَ
عبلةَ
سلمى زهيرٍ
وكلَّ الجميلاتِ في مهرجانِ الودادِ
فؤادي يُدندنُ مستوحشاً
- أَيْ حُبى
ياااا حُبى
أينَعَ الحزنُ
واخضوضَرَ الشجنُ
المستحمُّ بنارِ الغَضا
حيثُ دارَ الزمانُ
آستدارَ المكانُ
الى جهةِ الشمْسِ
كلُّ حُبَيبةِ رمْلِ
تصَيّرتِ اليومَ قُبُّرةً
او قطاةً من الضوءِ
يسعَينَ بينَ الوِهادِ
وفي كلّ وادٍ
يُنّقِّبْنَ مثلي
أنا وصحابي
الذينَ رأوا حُسْنَهُ كالعيانِ
استدارَ الزمانُ
استدارَ المكانُ
وكانت حُبى
في الطوافِ الأخيرِ
تدقُّ على بابِ أمّ القرى
برقيقِ العتابِ:
- الا خبّريني
متى تتفتّحُ بوّابةُ الشرقِ
ثالثةً
عن سراجكِ
ذاكَ الخبئ
وراءَ الحجابِ؟!..
وكانَ الجوابُ
لوامعَ برْقٍ
ترقْرقْنََ بينَ جفونِ الغيابِ
- فقلْ أنتَ
أيْ ياحبيبَ الرؤى
والمنى
والخطابِ
متى سوفَ تكسرُ شرنقةَ الصمْتِ
إنّي بكيتُ طويلاً
ومن شدّةِ الشوقِ
من شدةِ التوقِ
كنتُ ارى في المنام
ٱلذين استحالوا نجوماً
تسيرُ على الارض
يفترعون السّرارَ
على رَهَجٍ من غبارٍ
وبعضِ عِثارٍ
ومنْ عجَلٍ
قدْ تناوشنني ألفُ سيفٍ
وحاصرْنَني
في طريق التشوّفِِ ألفُ جدارٍ
تعقّبْنَني كُلُّ مُفْترسٍ
من ذئابِ التتارِ
دمي
مايزالُ هنا
في البراري القفارِ
دمي
ها هناكَ
يسيلُ عبيطاً
فويقَ سفوحِ البلاطِ
بعيداً
على قَدْرِ ما وصلتْ
صافناتُ النهارِ
ومازلتُ
في وجَعي ٱلسرمديِّ أنادي:
- أمن ناصرٍ
ياكتابَ الفتوحِ،
أما مِنْ مُعينٍ؟!
وكان المدى شاخصاً بالردى
كصليبِ المسيحِ
وكانَ الحُسَينُ الجميلُ
يصيرُ على راحةِ الدهرِ
محضَ مسيحِ ذبيحٍ
وليلى..
وشبّاكها المخمليُّ
تغازلُ أحلامَها
بقصائدِ كلّ الرؤاةِ
وزاجلةٌ
من حَمامِ الجراحِ
تدفُّ رويداً
بغيرِ جناحٍ
وتهدلُ
بين ضلوع الفجيعةِ
- يا أيها الغافقيُّ
سأبكي عليكَ
بكاءَِ التي أسقطتْ كبرياتِ الطِّماحِ
بكاءً..
يعاقرُ وحشتَهُ
في مهبِّ الرياح!!..
*
القراءة النقدية :
….................
لم تعد القصيدة الحديثة قصيدة غنائية محضة يستعيد الشاعر فيها آلامه ويحاور ذاته ، كما لم تعد موضوعاتها سائرة على وفق الاغراض التقليدية ، بل تخلت عن ذلك كله ونأت بنفسها عن المديح الزائف والتملق والتلاعب اللفظي وتكرار المعاني ، منفتحة على الاجناس الادبية والفنون الاخرى لتضحى ذات محمولات ثقافية متعددة ومتنوعة ، ذلك أن خطابية القصيدة ومنبريتها لم تعد تتواءم مع عصرنا الراهن ، وهذا ما دفع القصيدة الجديدة الى التخلي عن دورها الاخباري الحافل بالإيقاع المجلجل والمباشرة ، مستعيضة عن ذلك كله بتفجير اللغة والتلاعب بالدوال وتمويه المعنى وكسر افق توقع المتلقي ، بيد أن ذلك كله لا يعني تخلي الشاعر تماما عن ذاتيته وانسياقه وراء الموضوعية المحضة ، اذ لما يزل الشاعر يعيش أحاسيس القلق والضياع والوحدة والاغتراب والترقب ، فكأن قدر الشاعر أن يكون شاهد عصره ، اللاهج بمرثاة زمنه .
يعد الشاعر (غازي أحمد أبو طبيخ الموسوي ) من أبرز شعراء البصرة المعاصرين ، فعلى الرغم من احجام الشاعر لغايات خاصة عن النشر وايثاره الابتعاد عن الاضواء ، الا ان قارئ نصوصه يلمس بوضوح امكانية شعرية مميزة وطاقة ابداعية عززتها ثقافة واسعة واطلاع نقدي مميز هيأ لصاحبه التحرر من أسر الذاتية والانطلاق نحو آفاق ورؤى انسانية حداثوية ، فهو شاعر يجيد الكتابة على نمط الشطرين والتفعيلة وقصيدة النثر . ولقد امتلك الشاعر تجربة حياتية وانسانية واسعة مكنته من توظيف الامكانات الايقاعية والبنائية لقصيدة التفعيلة لخلق قصيدة تفاعلية حداثية تعتمد الافادة من البنية الدرامية والمشهدية التي توظف الرمز والقناع المتلبسين بالحقيقة ليبني قصيدته في اطار سردي ينطلق به الى عوالم واسعة ومتباينة .
تعد قصيدة ( أحلام السرار الاخيرة ) من القصائد اللافتة للانتباه في تجربة الشاعر فهي منذ عتبة العنوان تستثير مخيلة القارئ ذلك ان عتبة العنوان تمثل مفتاحا لفك رموز النص واضاءة دلالاته ، ومما لاشك فيه ان بنية العنوان تهيئ المتلقي لفهم النص ، لما يثيره من مشاعر جمالية إمتاعية ، وبسبب من وظيفته التأويلية يقول ايكو لن يستطيع احد الافلات من ايحاءاته ، وقد بدأ العنوان في النصوص الحديثة يبتعد عن الوظيفة الجمالية المحضة لصالح الوظيفة التأويلية ، واذا كان رولان بارت أكد أن العنوان يفتح شهية المتلقي للقراءة فان شارل جريفال يرى ان وظائف العنوان هي التحديد، والايحاء ، ومنح النص قيمته ،فان النص الذي بين ايدينا يحيل منذ مطلعه للحديث عن الحلم حتى اضحى الحلم سدى النص ولحمته وبنى الشاعر قصيدته منذ العنوان على احلام هرب بها من الواقع ، ومهد للربط بينهما عبر ( علائق لا شعورية تعمل على تقريب الفجوات المتباعدة ، ايا كان نوعها ، او مادتها في وحدة الخلق والابداع ، وهذات ما يجعل كل مرموز فيها مجسدا في رؤيا تختزل الواقع ، وتمتزج في حلم الخلق ) بحثا عن تغيير ، ولقد اطلق الشاعر على احلامه صفة الاخيرة ليؤكد ان الحلم يجب ان يتحقق هذه المرة بأي ثمن والا ضاع كل شيء.
ان قصيدة ( احلام السرار الاخيرة) قصيدة مثقفة _ان صح هذا الوصف نقديا_ فالشاعر يتكئ على ثقافة واسعة مختزنة في ذاكرته الشاعرية لبناء نص يشي بآلام واحلام وطن ، ولعل من اهم ما يتجلى في القصيدة ذلك المزج المحكم بين الذاتي والموضوعي في براعة مدهشة تشد ذهن المتلقي وتحبس انفاسه منذ عتبة العنونة حتى خاتمة القصيدة وهكذا تتشكل ثنائية الانا ـــ المجموع عبرحراك القصيدة وتمفصلاتها التراثية واستدعائها للشخصيات ولعل هذه الثنائية من اهم سمات القصيدة بخاصة وتجربة الموسوي الابداعية بعامة.
ان القصيدة على الرغم من طولها مشدودة بخيط سردي خفي يحرك بنيتها الفنية حيث ذات الشاعر وهي تحاور آخرا افتراضيا لعله الشاعر ذاته وهو يحاول ان يخبئ تلك الذات ويفتتها في ما حوله ، فالموسوي لا يتناول موضوعه مباشرة ، بل يحاول ان يتناول الواقع المأساوي برؤية بكائية حزينة تدين الواقع العربي ادانة محملة بمرارة الرفض المثقلة بحزن خفي أثقل كاهله ، وكأن الحزن غدا سمة في تجربته الشعرية .
لقد لجأ الشاعر الى توظيف واستدعاء رموز تاريخية يحاول من خلالها نقد الواقع الحاضر منطلقا من الماضي الذي احسن استثماره ، لذلك تجد الماضي والحاضر متواشجين يعضد بعضهم بعضا في نص الشاعر ، فمع محاولة الشاعر اللجوء الى خلق اقنعته التاريخية التي يختبىء خلفها لبث هموم الانسان المعاصر ، الا ان النزعة الذاتية لا يمكن الفكاك منها أواغفال دورها في النص .
يبتدىء الشاعر حديثه الشعري بمطلع متقن يقول فيه:
حدثتني خزاعة
حين التقينا
على ساحل الريح
عن زهرة نبتت في حنايا الضلوع
غداة القلوع
غداة جفاف الدم العبقري هناك
وآخر سفح جريح
احسن الشاعر البدءبــ (حدثتني خزاعة....) ليوهم المتلقي انه ناقل حديث ليس الا ، بيد ان المتأمل للقصيدة يتلمس منذ الوهلة الاولى مزاوجة واعية بين صوتين يتناوبان في القصيدة ، هما صوت الشاعر وأصوات الشخصيات ، فمنذ الكلمة الاولى في القصيدة يجعل الشاعر حديثه مع خزاعة التي تشي بمحمولات ثقافية تفتح افق المتلقي على تأويلات متعددة أهي علم لامراة ام المقصود القبيلة ، والراجح ان المقصود قبيلة خزاعة وهي قبيلة عربية معروفة نسبها بعض المؤرخين الى الازد اليمانيين ونسبها ابن اسحاق وغيره الى مضر ، وقد انتزعت قبيلة خزاعة سدانة البيت الحرام من جرهم بالقوة وظل بأيديهم اكثر من ثلاثة قرون ، ويجعل الشاعر مكان لقائه مع خزاعة مكانا طوباويا ، اذ كان اللقاء على ساحل الريح ، ويرى الكثير من المفسرين اهتداء بأساليب القرآن الكريم ان الريح تأتي في مواطن العذاب والخوف وان الرياح تأتي في مواطن الامن والطمأنينة . ولقد أدرك الشاعر ان القصيدة الحديثة لم تعد نصا مباشرا فقد تحول النص الى مجال يُلعب به ويمارس ويتمثل التحويل الابستمولوجي والاجتماعي والسياسي ، فالنص الادبي خطاب يخترق حاليا وجه العلم والايديولوجيا والسياسة ويتطلع لمواجهتها وفتحها واعادة صهرها على حد قول جوليا كريستيفا .
ويستمر الشاعر في قصيدته قائلا:
وكان دمي في سرار المشيئة
يكتظ بالشوق والتوق
اذ رفرفت زهرة الخلد بين الجوانح
كانت تهامية القسمات
وليست مهاة
وليست غزالا
فذي في كتاب المدينة
رؤيا النبوات
احجية
تتلفع بالوعد والامنيات
تبث نواجيها الحالمات
وفوق لماها دم الفجر:
يا صاحب الوقت
قد بلغ الحزن غايته
فانتصر للحياة
يتكىء الشاعر على المرجعيات الثقافية والتاريخية في قصيدته موقنا ان توظيف تلك المرجعيات يتم عبر نزعها من سياقها التاريخي وادراجها في الواقع المعاصر كاشفا عن أنساقها المبتغاة ، ولقد كان الشاعر موفقا في حشد السينات والشينات في المقطع ليحمله شجنا خاصا يشي بالحزن المعتمل في صدره يتواشج ذلك ايقاعيا مع الجناس ( شوق ، توق ) ، ولكي يشير الشاعر الى الربط بين الواقع المعاصر وعمقه التاريخي ، يصرٍح بالقول ( فذي في كتاب المدينة رؤيا النبوات ) ، والشاعر هنا ينطلق من رؤية وطنية وانسانية واسعة وشمولية تحاول التملص والتخلص من الرؤى الايديولوجية الضيقة مؤمنا ان القصيدة الحقة تنأى بنفسها مرتقية على المنظور الايديولوجي وتتجاوزه ، اذ أن الافكار التي تشكل قوام الايديولوجيا ــ كما يقول اميل دوركهايم ـــ لاتقدم الحقيقة العلمية لانها تقوم بالتشويه والاخفاء وعدم الصدق والوهمية ، لذلك ينتصر الشاعر لطبيعته الانسانية مبتعدا عن فجاجة الايديولوجيات المباشرة الخاضعة قسريا لرؤى زمكانية ترتبط بمصالح ضيقة الاطار ، غير قادرة على التعبير عن مبتغى الشاعر مقيدة لانسانيته الشاملة لكل المعاني المتفردة .
لعلي لا اتهم بالمبالغة اذا قلت ان اشارة الشاعر رؤيا النبوات من اهم مفاتيح القصيدة ومنطلقاتها الفكرية فالشاعر يستحضر احداثا ــ كما سيتضح لنا ـ مهدت لنبوة جده المصطفى وهيأت الظروف للانطلاق العربي الاسلامي لقيادة ركب الحضارة الانسانية ، كما لاننسى الصورة الباذخة ( وفوق لماها دم الفجر ) ، فالصورة هنا ذات طابع يقطر جمالا وعذوبة فضلا على ما تحمله من غرابة وادهاش ، فقد نجح الشاعر بتخليص الدم من صورته غير المحببة ناقلا اياه الى صورة محببة حينما دمجه مع صورة اللمى والفجر بانطلاقتهما الموحية بالحياة والتجدد والامل .
يبني السيد غازي الموسوي شعريته على وفق رؤية شمولية تسامت عن غنائية القصيدة سعيا وراء بناء نص نام قائم على صراع اضحى مركز الفعل الشعري ، ولعل من ابرز سمات هذا النص عند التأمل فيه انه يمزج بين قصيدة الاستدعاء التاريخي والأنا او الذات الشاعرة فهو حين يحاول ان يزيح ذاتيته عبر الشخصية التاريخية لا يلبث ان يعود بوعي مقصود او عبر شعرية اللاوعي الى أناه التي تظل ذات فعل مهيمن في بنية قصيدته بحيث تختلط (ياء المتكلم ) بين الشاعر وقناعه ، فهو تارة يختفي وتارة يستسلم لذاتيته ، اذ انه في الاسطر اللاحقة سرعان ما ينفلت من عقال القناع الذي اختفى خلفه لتعود أناه الشعرية نا هلا من مخزونه الثقافي :
وان اللواتي تبارقن في جريان الحروف
تواكبن من عجب خلف ذات الرشاد
عنيزة
عبلة
سلمى ....زهير
وكل الجميلات في مهرجان الوداد
الشاعر هنا يصرح باسماء حبيبات شعراء خلدن بذكرهن في مدوناتهم الشعرية ، وكأنه يريد القول انه وريثهم الشرعي وهو هنا يزاوج بوعي بين ( القناع والسرد والرمز وهو اسلوب ادونيسي ) على حد وصف فاضل ثامر ، اذ يسرد حديثه عن تلك الحبيبات الخالدات في الشعر العربي ، مصرحا بالمرجعية الثقافية والشعرية لهن فهن قد تبارقن من جريان الحروف ، وهو هنا يرمز بهن لكل جميل ومحبب في نفسه ، فالمرأة هنا واقع ورمز في آن واحد فهي انثى حقيقية ورمز للوطن لان كليهما يحتضن الشاعر فهو يبث اوجاعه واوجاع الوطن عبر حديثه مع المرأة ــ الوطن التي جعلها رمزا لكل ما هو جميل .
ثم يذكر الشاعر ( حبى ) التي شكلت رمزا من رموز القصيدة ، ولعل الذهن ينصرف للوهلة الاولى الى حبى المدينية التي يضرب بها المثل في الشبق والرغبة الجنسية فيقال ( أشبق من حبى ) ولها في ذلك قصة مشهورة تداولتها كتب الامثال والتراث وبخاصة ان الشاعر سبق ذلك بالحديث عن نسوة معشوقات عرفن رموزا للحب في الشعر العربي ، بيد أن نظرة متأملة في القصيدة تنقل ذهن المتلقي الى حبى أخرى يبدو انها هي المقصودة بدلالة ذكر خزاعة في مطلع النص وهي ( حبى بنت حٌليل بن حبيشة بن سلول بن عمرو الخزاعية ) التي تزوجها قصي بن كلاب بن كعب جد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد قصة طويلة عن تغربه ثم عودته لمكة ، وكان والدها يتولى شؤون الكعبة ، وقد جعل الامر بعده لقصي لما رأى كثرة اولاده من ابنته ، وقيل غير ذلك ، وبعد موت حٌليل اخذت خزاعة المفتاح من حبى فاستنصرت زوجها فاستعان باهله من قريش وكنانة واقتتل مع خزاعة وهزمهم واستعاد شؤون الكعبة .
فحبى اذن هي رمز انثوي للكرامة المستعادة بقوة السيف ورمز للاخلاص للزوج ورمز للبنات الاولى للتمهيد لظهور قريش القوة الاكبر في الحجاز تمهيدا للبعثة النبوية ، فهي جدة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبذلك هي جدة الشاعر ايضا .لكن الشاعر هنا يستعيد ذكر حبى رابطا اياها مع الحزن اليانع والشجن المعشوشب المستحم بنار الغضا ، ومما لاشك فيه ان نار الغضا تتناص مع قول مالك بن الريب في غربته :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادي الغضا ازجي القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه وليت الغضا ما شى الركاب لياليا
لقد كان في أهل الغضا لودنا الغضا مزار ولكن الغضا ليس دانيا
واذا كانت( القراءة تمنحنا الفرصة لصياغة ما ليس مصوغا ) كما يقول الناقد رامان سلدن، فان قراءتنا للنص تشير الى ان الشاعر بقوله :
اي حبى
يااااا حبى
اينع الحزن
واخضوضر الشجن
المستحم بنار الغضا
حيث دارالزمان
استدار المكان
الى جهة الشمس كل حُبيبة رمل
تصيَرت اليوم قبَرة
او قطاة من الضوء
يسعين بين الوهاد
وفي كل واد
انما يميل لتوظيف شخصيات ذات ابعاد فكرية معمقة في الموروث الجمعي فتنتقل الشخصية من وجودها التاريخي الى ابعاد جديدة تضيف بعدا مستقبليا ينقل المبدع الى حالة من المعالجة غير المألوفة لافكار الواقع ، ولقد مثلت حبى هنا دلالة فكرية عميقة ذات ابعاد حضارية جديدة ، فاذا كانت في الذاكرة التاريخية رمزا للنقلة الحضارية والاخلاص للزوج وصرخة بوجه التشرذم وداعية التوحد وممهدة لان تكون قريش قوة كبرى تنبىء عن اكتمال انبلاج الرسالة المحمدية الخالدة ، فهي هنا بعد ان استدار الزمان والمكان اضحت رمزا للحزن والتشرذم والضياع والحلم المفقود ، والقبَرة في الاسطورة اليونانية طائر مات ابوه فلم يجد مكانا يدفنه فظل يحمله على رأسه في اشارة الى التاج الذي على رأس الطائر ، ولعل الشاعر هنا اتخذ من القبرة رمزا للموت المجاني الذي نعيشه كل يوم وضياع المنظومة الحضارية العربية ازاء التفتت والتشرذمة فقد استدار الزمان الذي جمعت صرخة حبى قريش ومن جاورها فاستعادوا المجد المنتزع ، ليكون زمننا هو الزمن الذي ينتزع منا كل شيء ونكتفي بحمل موتانا على رؤوسنا ببلاهة قبّرة. كما اختار القطاة لانهال لاتبيض في عش ولاتبني موطنا بل تضع بيضها بالفلاة بعد ان تفحص برجليها في الرمل حفرة صغيرة فتضع بيضها وورد في الحديث النبوي الشريف ( من بنى مسجدا لله كمفحص قطاة او اصغر بنى الله له بيتا بالجنة ) ، وهي على صغر مكان عشها لاتضيعه وتهتدي اليه حتى ضرب بها المثل فقيل اهدى من قطاة فكأن الشاعر يريد القول ان القطاة لاتضيع مفحصها ونحن نضيع اوطاننا ولذلك يتراءى لي ان الشاعر لم يأت بالقبرة والقطاة مصادفة بل رمز بهما لما اراد قوله وهو تأويل اميل اليه وقراءة ارجحها .
ينتقل الشاعر بعد ذلك الى مقطع اخر يقول فيه :
استدار الزمان
استدار المكان
وكانت حبى في الطواف الاخير
تدقّ على باب ام القرى
برقيق العتاب:
متى تتفتح بوابة الشرق
ثالثة
عن سراجك
ذاك الخبيء
وراء الحجاب ؟!
وكان الجواب
لوامع برق ترقرقن بين جفون الغياب
تتضح هنا قدرة الشاعر على تغيير الشخصية التاريخية المستدعاة وشحنها بطاقات تأويلية جديدة ، اذ ينفتح الخطاب الشعري على حقيقة ان ذواتنا المعاصرة ما هي الا امتداد لوعينا الماضوي المنطفىء ، فتحاول الذات الشاعرة تأكيد وجودها الانساني بلغة شعرية تستفيء ظلال الانزياح لتنهل من التكوين الثقافي في محاولة واعية لادخال المعاصرة في تلابيب الماضي والباسه حلة معاصرة تحمل رؤيا العصر ورؤيته ، وتكمن شعرية النص في تجاوز البعدالتاريخي المألوف والمعروف للشخصية المستدعاة والتحرك بها الى قارة المجهول ، فالشاعر يزاوج بين تاريخانية الحدث والرؤيا المعاصرة لتمنح الشخصية بعدا جديدا يحكي معاناة الذات / الاخر ، ليجعل نسق الحضور المتبرعم من نسق الغياب مهمة ينهض بها القارىء المشارك الذي يحاول استخلاص المعاني الخفية في بنية الخطاب ليمنحها حضورا نصيا جديدا ذلك ان التراث ( هرم الحركات والاجتهادات الابداعية ، وليس مستودعا للوصفات الجاهزة التي يمكن استعمالها انطلاقا الى المستقبل ) ، ولعل الشاعر في اشارته الى عودة حبى لتدق ابواب ام القرى طالبة ان تفتح بوابة الشرق ثالثة لتضيء الكون انما يستفيد من قوله تعالى ( وقضينا الى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا . فاذاجاء وعد اولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا اولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا . ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا . ان احسنتم احسنتم لانفسكم وان اسأتم فلها فاذا جاء وعد الاخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه اول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ) الاسراء 3ـ6. وهي اشارة الى العودة المنتظرة للواء الاسلام والعرب لازاحة الصهاينة عن المقدسات واعادة المسجد لاهله ، ويبدو لي ان الشاعر لم يقصد عودة الاقصى تحديدا بل عودة العب المسلمين لتبوء دورهم الحضاري الموكول لهم والذي ابتدأت ممهداته بنقل حبى وزوجها فصي الامر الى اجداد المصطفى ( صلى الله عليه واله وسلم ) واكتملت ملامحه بانطلاق البعثة النبوية المباركة.
ان الشاعر كما يبدولي يلمح الى فكرة المهدي المنتظر المعروف في كل الديانات بتسميات مختلفة بوصفه المنقذ الذي يأتي آخر الزمان ليحقق العدالة المطلوبة
يلجأ الشاعر الموسوي الى تفعيل ذاكرته الشعرية محاولا المزج بين الذاكرة والمخيلة الشعرية عبر ربط التجربة المعاصرة مع الماضي جارا القارىء الى ان يصبح مشاركاذا دور ستراتيجي في النص ، فهو يجرد الشخصية المستدعاة من اطارها الزمكاني مانحا اياها بعدا اسطوريا خالدا ورؤيا عالمية الاطار عبر هاجس شعري يسعى للتملص من ربقة الماضي . لان فاعلية النص هنا تقوم على التناوب بين فعلي الحضور والغياب والمراوحة بين الوصف والحوار والمزاوجة بين الشعري والسردي ، ولعل من الملاحظ هنا ان الحوار وحيد الاتجاه فهو ينطلق من الذات الشاعرة ليعود اليها ، فعلى الرغم من ان البنية الظاهرية للنص تقوم على حوار بين الشاعر و(حبى) لكن باطن النص يشي بمونولوج داخلي قائم على استدراج الذات للبوح عن هواجسها وآلامها عبر اتاحة الفرصة امام اللاوعي المسجون للانفلات لاشعوريا ، فالخطاب الشعري لا يكتفي بالدوران في قطب رحى الماضي بل جاء الاسترجاع الماضوي ليكون تربة خصبة لاتاحة الفرصة لهموم الذات ان تنطلق من عقالها فالابداع يميل دائما الى ( تشكيل الماضي بعدا زمنيا بوساطة عناصر مستمدة حصريا من الحاضر ) ما يقول سارتر ، فالشاعر يكاد ان يقع في فخ المباشرة حين يدعو الى ان تفتح ابواب الشرق لنتخلص من مآسينا ، لكن الجواب لم يكن سوى لوامع برق تترقرق بين جفون الغياب ، والصورة هنا ذات بعد مأساوي يوحي بالالم والوجع وغياب المجموع وظهور الفرد ، فالشاعر هنا يحمل خطابه دلالة تأويلية تشي بواقع متدهور يجد المبدع فيه نفسه ضائعا مشتت الخطوات ، ويتخطى الشاعر الواقع الى ماورائية الحدث ذلك ان مخيلة الشاعر تجمع بين المرئي واللامرئي ، الحقيقي واللاحقيقي ، المعلوم والمجهول ، الموجود والمتخيل
ينتقل الشاعر بعد ذلك الى الصورة الحلمية المتمناة هربا من الواقع فيقول :
اي ياحبيب الرؤى والمنى والخطاب
متى سوف تكسر شرنقة الصمت
اني بكيت طويلا
ومن شدة الشوق
من شدة التوق
كنت أرى في المنام
الذين استحالوا نجوما تسير على الارض
يفترعون السرار
على رهج من غبار
وبعض عثار
ومن عجل قد تناوشنني الف سيف
وحاصرنني في طريق التشوف الف جدار
تعقبنني كل مفترس من ذئاب التتار
ان الشاعر وهو يجد الواقع مرا يحول دون ما يصبو اليه تهوم روحه الشعرية حول الامكنة ملتجئا الى الحلم حينما يصبح الواقع معاديا بسبب ما يمارسه من قسر فتغدو معاينة الشاعر للمكان معاينة فوق شعورية تتجاوز الادراك الواعي واقعيا ملتجئا الى الحلم كاسرا نمطية الواقع ، ويرى هيلدبرانت ان ( هناك تيارا من الاحلام يرتبط بواقع اليقظة ، مما يدل على ان استقلال الحلم عن اليقظة ليس استقلالا تاما فبعض مشاهد وصور تكوين احلامنا تتكون من ما رأته اعيننا او خطر ببالنا ونحن نمارس نشاطنا الواعي ) .
من هنا فالشاعر بعد ان اوصدت امام رغباته ومطامحه ابواب الواقع ومارس طقوس بكائيته التي لاتنقطع وأضنى به الشوق والتوق الى يوتيوبه المفقود وجنته المضاعة ، لم يجد امامه سبيلا سوى الحلم ليستعيد به موازنة الذات التي فقدت ملجأها في واقعها المر ، فالشاعر لايحاول ان يرفض واقعه المعيش فحسب ،بل يحاول ان يتملص من ذاته متمردا على الذاتية لاعادة بناء الواقع من المتخيل بصياغة جديدة تحمل رؤى باطنية تلتقط من الواقع لبنات لبناء عالم مثالي متخيل ، يهرب من اسر اليومي المألوف الى عوالم متجددة تتسربل بثوب شعري يمنحها فرصة الخلود.
لقد لجأ الشاعر الى تقانات عديدة منها تقانة التكرار في المقطع السابق فقد تكررفي المقطع السابق صوت الراء خمس عشرة مرة وصوتي السين والشين ثلاث عشرة مرة والنون ستة عشر مرة ، كما حفل المقطع بحروف المد التي تكررت زهاء ( 25 ) مرة ومن المعروف ان حر وف المد تضفي على النص استطالة وعمقا
يعرف الدكتور ريكان ابراهيم الشعر بأنه ( نزف فكري وجداني ينفثه الشاعر من مخيلة تمثل محصلة تشترك في وضعها مؤشرات الرغبة والارادة ....ومركزية الانا والمكانة الاجتماعية والمعدات الممكنة من الثقافة والتحضر) تجتمع كلها متوهجة في مخيلة الشاعر لتخلق نصا ينبجس من ذاكرة الشاعر ليمنحه التوازن ، ولعل العودة الى الماضي هو جزء من البحث عن اليوتوبيا المفقودة التي ترفض الواقع منتقلة الى عالم مأمول ومكان مثالي يضج بخرق المألوف والسعي للتحرر من قيود العقل والمنطق وفك اغلال المخيلة الشعرية لتمزج الواقعي بالفنتازي ، فالشاعر يرى في حلمه اولئك الذين استحالوا نجوما تسير على الارض مفترعة السرار ومتجاوزة العثرات .. من هم هولاء ؟ أهم الشهداء ؟ ... أهم الشعراء ؟ أهم الجيل القادم المؤمل ان يقيل عثراتنا .....ربما هم اولئك جميعا فالشاعر يحاول ان يجعلنا امام تصورات متعددة ، والقصيدة الناجحة هي التي تحتمل تعدد التأويل وتباين التفسير وتنأى بنفسها عن الفهم المباشر وتعيد ترتيب الحدث ، وتصهر المتلقي مع الذات الشاعرة لتتيح امكانية تأويل متعدد يشي بمقاصد الذات المبدعة ، التي تدخل منطقة الحلم الممثل لحظة الالتقاء بين الوعي واللاوعي حيث تتخلى اللغة عن دورها الابلاغي الى الدور التخييلي الهارب من أسر الزمان والمكان ، الى فضاء اللامحدود بدون ان يترجل الشاعر عن صوت الانا الذي ظل لصيقا بالنص على الرغم من ارتداء الشاعر رداء اللامألوف واللجوء الى الصور الغرائبية المتخيلة في اطار الحلم .
يستعيد الشاعر ايضا عمق موروثه الديني والتاريخي مصورا الف سيف يتناوشنه والف جدار يقف في طريقه ، فكأن الشاعر يستلهم ثورات الرافضين المتحدين ، وتنبثق من خضم ذاكرته بوعي اولاوعي صورة جده الحسين ( عليه السلام ) حين تناوشته السيوف وما ينسب له من قول :
ان كان دين محمد لايستقم الا بقتلي ياسيوف خذيني
ان الشاعر يستعيد ذلك كله ليوصل لمتلقيه ان الفكرة لايمكن وأدها وان القضية ستنتصر على الرغم من زمن الهزائم والضياع ، ولابد ان تخرج العنقاء من بين الرماد ، كما يتخذ الشاعر من التتار رمزا لكل دمار واذى مستعيدا ذلك من الذاكرة الجمعية العربية اذ اتخذ هذا الرمز بعد اسطوريا بما اضفته عليه المخية التاريخية والشعبية من اضافات لجرائمهم وبطشهم وهمجيتهم حتى اضحى معادلا موضوعيا للسلطة الغاشمة والقتل والدمار .لذلك اتخذت الذات الشاعرة من الحلم منطلقا موضوعيا لنقل التجربة المثقلة بالوجع المنهكة من الاقصاء المضطرة الى الانكفاء على الذات .
ينتقل الشاعر بعد ذلك من التلميح الى التصريح فيقول :
دمي
ما يزال هنا في البراري القفار
دمي هاهناك
يسيل عبيطا فويق سفوح البلاط
بعيدا على قدر ما وصلت صافنات النهار
وما زلت في وجعي السرمدي أنادي !
أما من معين ؟
وكان المدى شاخصا بالردى
كصليب المسيح
وكان الحسين الجميل
يصير على راحة الدهر
محض مسيح ذبيح
يتخذ الشاعر من القناع تقانة درامية تنأى بقصيدته عن المباشرة والغنائية وتجعل المتلقي متفاعلا مع المراوحة بين صوتي الشاعر والشخصية المتقنع بها ، فالموسوي يذيب صوت الماضي بالحاضر ملبسا اياه رداء شعريا معاصرا ، واذا كان النقاد يرون ان شعرة واحدة تفصل بين الرمز والقناع ، فالشاعر هنا يمنح الرمز بعدا كونيا واسعا ، ويمهد المتلقي لتقبل ارتدائه قناع الامام الحسين ( عليه السلام ) بالحديث عن دمه المسفوح بالبراري السائل عبيطا في منعطفات بلاطات الحكام ، بيد أن القناع يصل ذروته حين يصرخ ملء فيه ( أما من ناصر ؟ أما من معين ؟) ، لتغدو هذه الصورة الكونية الخالدة رمزا لكل ثورة انسانية ترفض الظلم ، فالنص لايكتفي بحمل الابعاد الدينية والعاطفية للثورة بل يركز على البعد الفكري الانساني ، اذ اضحى الموت سموا ورفعة وانطلاقا ، ويبث الشاعر رؤية ايديولوجية متقنة لرمزية الفعل الثوري للامام الحسين ( الرمز والقناع ) صرخة المظلومين عبر العصور ، لكن الشاعر سرعان مايتخلى عن القناع مصرحا باسمي الحسين والمسيح موحدا بينهما ، ومن الجدير بالذكر ان مزج شخصيتي الحسين والمسيح عليهما السلام مألوف في الشعر العربي منذ جيل الرواد ولعل من الشعراء الذين اكثروا من ذلك الشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب ،
ان الشاعر يؤكد ان الدم المقدس المهدور على ايدي الظلمة منتشر في العالم كله فهو هنا وهناك ، قريب وبعيد على قد ما وصلت صافنات النهار وهو سرمدي خالد ، فالموت ممتد خالد ، والتضحيات ذهبت هباء وهذا الحسين الجميل ولنقف برهة عند هذا الوصف فهو لم يصف الحسين بالشهيد وهي صفته المألوفة ، بل وصفه بالجميل لأن الشعر ليس من طبيعته ان يقول ما قيل أ ويسمي الاشياء بمسمياتها بل يفجر اللغة ليخلق علاقات جديدة بين المفردات ، والشاعر يريد القول ان التضحية ذهبت هباء وان الحسين صار محض مسيح ذبيح ، فه هنا يرمز الى ضياع التضحية ووأد الثورة ، وفقدان الرمز دوره اذ اضحى مجرد ذكرى ، ولم تؤت التضحيات اكلها .
يختتم الشاعر قصيدته بالقول :
وليلى
وشباكها المخملي تغازل احلامها
بقصائد كل الرواة
وزاجلة من حمام الجراح
تدف رويدا بغير جناح
وتهدل بين ضلوع الفجيعة
ـــ يا أيها الغافقي
سأبكي عليك
بكاء التي اسقطت كبريات الطماح
بكاء يعاقر وحشته في مهب الرياح
يلجأ الشاعر الى خاتمة حزينة ، فليلى رمز الحب العذري الصادق لما تزل تعيش حلمها المنتظر الذي لم يتحقق والحمامة رمز السلام تدف مقطوعة الجناحين بعد ان ذبحتها مدى الهزيمة ، وتهدل على فجيعتها المتجددة ، والغافقي ينهض بعد ان استدعاه الشاعر من ذاكرته التاريخية وخاطبه بوصفه رمزا لاول هزيمة عربية وانتهاء الحلم العربي بالانتصار على الفرنجة . ولعل الشاعر هنا اختار هذا الرمز ليؤكد ان زمن الهزيمة استمر قرونا وان آمالنا سرعان ما تتحطم على صخرة الواقع
ان الشاعر تعمد ان يختتم قصيدته بنبرة حزينة يائسة يعاود فيها انكفاء الذات الشاعرة على عزلتها الرافضة بعد ان لم تجد ؟أمامها مجالا للتحليق بعيدا عن زمن الهزيمة المرة .
ان قصيدة ( أحلام السرار الاخيرة ) كما يبدولي هي قصيدة ذاكرة وحلم فالشاعر منذ العنوان يلتجىء الى الحلم هربا من الواقع ، فالحلم في القصيدة هو وعي اللاوعي ان صح التعبير ، وهو هروب واع نحو منطقة اللاوعي وكأن الشاعر يريد ان يجعل من منطقة الحلم منطقة امتزاج بين الانا والاخر ، الواقعي والمتخيل ، الفرد والمجموع خالقا مكانه المتخيل ، مازجا بين الذاكرة وثقافة الشاعر الموؤدة بواقع ذبيح.
ان هذه القصيدة بحق قصيدة باذخة في بنائها الفني ورمزيتها العالية وبوحها الشجي وبكائيتها المتقنة ، لذلك لا ابالغ بالقول انها بكائية وطن اثخنته الجراح وامة قطعتها المدى ، ولذلك ارى ان هذه القصيدة هي مفتاح ديوان الشاعر كله .
مصادر البحث ومراجعه
ـــ الابداع والمشروع الحضاري : أنور عبد الملك ، مجلة فصول ، المجلد الثالث ، العدد الثالث ، 1984.
ـــ الاغذية والادوية : محمد العربي الخطابي ، ار الغرب الاسلامي ، المغرب 1990
ــ أنساب الاشراف : البلاذري ، تحقيق محمد باقر المحمودي ، مؤسسة الاعلمي ، بيروت ،1974
ـــ البداية والنهاية : اسماعيل بن عمر بن كثير ، مكتبة المعارف ، بيروت ،1990
ـــ تاريخ مكة :د. محمد الياس عبد الغني، دار المدينة المنورة ، السعودية ،2001
ـــ التحليق في فضاءات النص : أ.د. محمد جواد البدراني ، دار دجلة ، الاردن ، 2015
ـــ تفسير الاحلام : سيجموند فرويد ، ترجمة مصطفى شغوات ، دار المعارف ، مصر ،د.ت
ــــ التفكيكية في الفكر العربي القديم : د. عبد الله خضر حمد ، دار القلم ، بيروت ، 2016
ـــ ثريا النص مدخل لدراسة العنوان القصصي: محمود عبد الوهاب ، دار الشؤون الثقافية ، 1995
ـــ الحداثة في الخطاب النقدي عند آدونيس: د. فارس عبد الله بدر الرحاوي، دار الشؤون الثقافية ، بغداد ، 2011
ـــ خزانة الادب ولب لباب لسان العرب : عبد القادر بن عمر البغدادي ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، 1986
ـــ خطاب الرؤيا في الشعر العراقي المعاصر : مريم جابر عايش ، رسالة ماجستير ، جامعة المثنى 2017
ـــ ديوان مالك بن الريب : تحقيق د. نوري حمودي القيسي ، مستل من مجلة معهد المخطوطات العربية المجلد 15 الجزء الاول
ـــ رهانات شعراء الحداثة : فاضل ثامر ، دار الشؤون ، بغداد 2019
ـــ الريح والرياح في القرآن الكريم : محمد متولي الشعراوي ، شبكة المعلومات العالمية
ـــ سنن ابن ماجه : محمد بن يزيد القزويني ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، دار احياء الكتب ، 2010
ـــ علم النفس والتاريخ : يوسف احمد ، دار النهضة ، القاهرة ، 2003
ـــ مجمع الامثال : ابوالفضل النيسابوري الميداني ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، العتبة الرضوية ، ايران ، د.ت
الملهوف على قتلى الطفوف : علي بن موسى بن طاووس، دار الاسوة ، قم ، د.ت
ــ الوجود والعدم : جان بول سارتر ، ترجمة عبد الرحمن بدوي ، دار الاداب بيروت 1966

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق