الثلاثاء، 22 مايو 2018

بيان قصائد نانو Nano Poems مشروع للتجريب في حساسية اللغة أسعد الجبوري

لم يكن الشعر متحفاً ولا الشاعر قطعة أثرية تُحفظ في صناديق زجاجية.فالشعر ضد العرض كبضاعة، وما كان الشاعر استعراضياً إلا في حالات مديح الآخر أو قضمه هجاءً. لقد حاول الجاهليون أن يجعلوا من اللغة قبيلة ،دون أن يتمكنوا من ذلك. لأن اللغة لا تكون خيمة لأحد بالمطلق. فهي ضد السكن في منزل ثابت.
وإذا كنا نتحرك في مجرى التاريخ اللغوي بقوة التخيل، كبناة نصوص ومفجري معانٍ، فإننا لا نميل إلى استعمال المكابح في أثناء أعمال التأليف، لئلا تتعود الحرية على الكسل، فتمتلك التبريرات لوضع الخطوط الحمر ما بين مفردة وأخرى، فتصاب النصوص بالأذى القمعي.
كما وليس كمثل التوقف على تلال اللغة قتلاً لأعمال التخييل وفرص الإبداع.التوقف أو الوقوف هناك، يأخذ معنى توقف الدم في شرايين الجسد.وتالياً فهو عمل يشبه قص الأجنحة منعاً للطيران إلى ما وراء الأقفاص الجاهزة وقوالب الكتابة المُعَدة سلفاً. والشعر العربي الذي أسرف في التبجيل وفي التقليد وفي النوم الطويل في كهوف اللغة وأبارها السحيقة، بقي مخلصاً للوراثة التي ما زال يعتاش على حطامها وفضلاتها السلفية التي تعكس حالات اليأس والخذلان والارتهان لمنجزات الفعل الشعري الماضوي، كونه تعبير عن هوية مكان وزمان في آن واحد.
القداسة هنا تتضح جلياً. فبعدما خمد الشعر العربي بفعل التخدير القسري القدري، واستسلم لإرادة التراث،ظل حراكه قيد المساحات الضيقة، ويمشي بأقدام مُعوقة أنهكها المخدر الكتابي القديم، فيما الشعر أصلاً جزء من حركات الطيران.فعل من أفعال الانفلات ولا ينتمي إلى عار التوقف في موقف السلف أو في موقف رامبو أو في موقف الباص!!
التلامس المهني مع حركات شعرية عالميةنلم يخدم المخيلة الشعرية عربياً، ويأخذها إلى مجال جوي آخر، أبعد من نص الهايكو وأكثر فتنة من رامبو وسان جون بيرس. الغالبية العظمى من شعراء العربية كانوا من الهوامش. يهمشون نصوصهم تارة بالتبعيةوتارة بالتناص مع شعراء أجانب هم بالأصل خارج التغطية وعليهم علامات لا تخدم الشعر بحركاته التطورية.
لذا.. كان الشغف بنصوص قصائد الهايكو مثالاً يؤكد على أن الانغماس بهذا النوع من الكتابة إنما يؤكد على أن العقلية الشعرية العربية جزء من ذاكرة زراعية. أو هي في عمقها طين لطبيعة صامتة. فالهايكو الياباني شعر ينبت ويموت في ذات المكان الطيني. ومن النادر أن تجد منه نصاً ينبت على ورق أو يطير بعيداً الحقل.
في اللغة -أية لغة- ثمة فضلات مختلفة. ثمة جدران وحيوانات وكائنات متعددة الجنسيات مختلفة المذاهب متوابة الاتجاهات الفنية.فاللغة بدءاً ماء في مجرى الروح، ومن الصعب نقله إلى مكان آخر.فأن تجرأ أحد بوضع ذلك الماء في أكواريوم أو برميل،فانه سيفقدنا حساسية حركتها بصرياً.يفقدنا جماليات الفيض والسيلان.والنقل بالتالي هو حجز. اعتقال للغة ومحو لتفاصيلها. كل لغة تعيش ردحاً أطول، هي لغة تحاول عدم التفريط بمخلوقاتها الداخلية. فما من لغة دون سلالة أو بذور جينية خاصة بمفرداتها كما أدرك.
لقد حاول عبر سنوات ومن خلال تجاربي الشعرية، الخوض في اللغة عميقاً. اقتحامها في نومها ومناماتها. تبديدها وممارسة أشرس أنواع اللعب بالخلايا الخاصة بها. كنت أدرك بأن اللغة تفكر بالمؤلف في أثناء الكتابة. وتعلمت أن أزج نفسي في لحظة تفكيرها بي كشاعر يحاول الدخول في مجرى فكرها المعقد بنا وبما يحيط بنا من كائنات وأفعال. مرة ظننت بأن أجمل ما في اللغة هي حيواناتها الملتهبة الشراسة. فتلك الحيوانات صعبة المراس، لكنها كانت تتحمل عبْ عمليات نقل الأفعال والدلالات والمجاز من منطقة إلى أخرى ومن نص إلى آخر. وإذا كان المؤلفون يقوم بالعمل نفسه مع بداية كل نص، إلا أنهم لا يجيدون ذلك العمل بمثل إخلاص حيوانات تعايشت مع أسباب نمو عوالم اللغة الداخلية لأن اللغة ما كانت كلمات وحسب، بقدر ما هي أرواح سحرية تعمل في تيه مطلق.
لا في كل ذلك من أجل تحقيق منجز شعري خارج سيطرة الذهنيات القائمة. وكان من آخر تلك الأفعال الشعرية التجريبية، التمرس على كتابة ما هو أبعد من الهايكو وأشد اختصاراً من أي حجم شعري في العالم،إلا وهو التجريب على صياغة مشروع عربي شديد الكثافة وشاسع الدلالات والمعاني، حيث بناء كل نص أو قصيدة لا يتعدى خمس كلمات، لأن اللغة العربية قابلة لأشد التفجيرات. قابلة للتجريب بمختلف مكوناتها البلاغية والمجازية، وذلك عندما تتم السيطرة على باطن اللغة لا الركض على ظهرها مثلما يفعل الكثير من الشعراء راهنا.
هنا نقدم نماذج من ((قصائد النانو)) هدفاً للسيطرة على حركات التصحر التي تحاول ضرب الشعرية العربية ومشروعاً للتأسيس عليه:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق