الأربعاء، 27 مارس 2019

قراءة في نص الشاعرة الدكتورة سارة سامي بقلم الاديب إحسان الموسوي البصري

قراءة في نص
الشاعرة الدكتورة سارة سامي
بقلم الاديب إحسان الموسوي البصري
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،ّ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الشعر الراسخ سباحة في اعماق الشعور وقراءة معمقة كثيفة للذات والموضوع،وذلك يستدعي نوعاً من الاحترافية العالية الناضجة لتدعيم الموهبة..ولا ريب ان الموهبة منطلق اساس..
والشاعر اذا كان طامحا للتحققات الكبيرة فيجب عليه ان يكون مبدعا..
ومن صميم التجربة تلمست شخصيا مطالبة الشاعر من قبل المتلقي باعلى مستويات المصداقية..انما المقصود بها الصدق الفني الجميل..
الشعر تعبير عن المشاعر العميقة قيل كل شئ ، والشاعر المبدع لابد ان يترقى حرفة ووعياً لكي يتمكن من هذه المهمة ، وللمتلقي أن يطالبه بالصدق والعفوية في ذات الوقت.
والصور الشعرية البديعة حاضرة في أذهاننا ويحضرني ماقاله " محمد زكي العشماوي حيث يقول: "
ليس من الضروري أن يعتمد الشاعر على تجاربه الذاتية المباشرة وحدها، فإن الأديب الذي يقتصر في أدبه على إطلاق مشاعره وحدها أديب عاجز أما الأديب الناجح فهو الذي يستطيع أن يخلق بقوة خياله الشعري الذي يريده"
وعندما قرأت بداية هذا النص الذي بين يدي الآن ، إستوقفني بإدهاش ماتضمنه من خيال خصب استطاع صنع صورة شعرية متكاملة بألفاظ ومعاني كبيرة وأحاسيس ومشاعر صادقة ولفتات معبرة أخرى تفسح مجالا خصبا للتأمل والوقوف بيسر على جودة وجمال الصورة الشعرية في هذا النص النابض بالذات الشاعرة ، التي كانت بمثابة القطرة التي أفاضت كأس الرومانسية ، من خلال تدفق ماء الوجدان .
وكان لحضور الذات أثر واضح التجلي في هذه الصورة الإشراقية الإبداعية من خلال التمرد على التقليد و" الإحياء" بعيدا عن التطرف ذات اليمين وذات الشمال.
هذه الفكرة التي ذهب اليها أكثر شعراء الحداثة من أصحاب "مدرسة الديوان"و"التيار المهجري" الذين يؤمنون بسؤال الذات في أواخر القرن التاسع عشر أمثال "العقاد"و"ميخائيل نعيمه"
ورجوعا لهذا النص بالذات للشاعرة المغتربة الدكتورة سارة سامي ، وجدت ضالتي في البحث عن المضامين الذاتية في النص .
حيث تتجلى البنية الايقاعية التي أفرغت فيها معاناتها الذاتية وكيف صورت مكنونات وجدانها بهذه الصورة الرائعة المنتمية إلى الشعر العربي الحديث انطلاقاً من طراز التفعيلة الحرة كون النص مكتوب على تفعيلة بحر الوافر القوي الايقاع،والذي يعبر عن الأسئلة المتكاثرة التي تختزنها الذات .
"""""""""""""""""""""""""""""
نص الشاعرة
""""""""""""""""
كُن مطراً
،،،،،،،،،،،،،،،،،،
رَأَيتُك في صَدى صَوتي
مواعيداً تُغازلُني
وأَحلاماً تُناديني
فكُنْ مَطراً
يُقاسِمُني جُنونَ الصَّمْت...
يُلْقيني كأُغْنيةٍ
على شَوقِ البساتينِ
رأَيْتُك في صَدى صَوْتي
تُراقصُني على شَيْءٍ مِن التَّانْغو
رَأَيْتُك مِثْلَ ملاَّحٍ
يَجُوبُ البَحْرَ في خَوْفٍ
وقبلَ الفَجْرِ يُلْقيني
على أَرْضٍ مِنَ الرَّيْحانِ
والرُّمَّانِ
في كُلِّ الميادينِ
تَحَدَّ المَوْجَ فِي بَحْري...
وَلاَ تَحْفَلْ بِعَجْرَفَتي
وَكُنْ خَوْفي...
وَكُنْ فَرَحي...
وَكُنْ مِلْحَ الشَّرايينِ
أَنَا امْرَأَةٌ كَما الدُّنْيا
كَعُصْفُورٍ مِنَ الأَحْلامِ مُنْطَلِقٍ
فَلا تَقْرَبْ لأَجْنِحَتي
وَلاَ تَجْعَلْ رَمادَ السِّجْنِ يحْرِقُنِي
وَكُنْ فِي القَلْب كُلَّ القَلْب
يا حُبّاً...
على كُلِّ العَناوينِ
""""""""""""""""""""""
وبتأملي النص ومضمونه المفعم بالاشراقات الابداعية أجد وصف الشاعرة للأشياء له تأثير كبير على نفسيتها .
"رأيتك مثل ملاح يجوب البحر في خوف"
وبتأملي أكثر إلى لغة النص يتضح لي أن مايتضمنه هذا النص ينقسم إلى قسمين دلاليين هما الذات والغربة.
وأجد أن العلاقة بين الذات والغربة علاقة انسجام نابعة من بواطن النفس ،
ولم تلجأ فيها الشاعرة إلى المعجم كما يذهب شعراء مدرسة "البعث والاحياء"
الذين عزلوا لغتهم عن نفسيتهم وواقعهم متناسين بذلك اللحظة الإبداعية المتمثلة بانغماس لغة النص في محبرة الوجدان.
"تحد الموج في بحري ولاتحفل بعجرفتي "
ومن خلال هذين السطرين وما سبقهما تظهر لنا لغة هذا النص منسجمة مع ذات الشاعرة رقراقة منسابة هامسة بعيدة عن الجزالة والفخامة.
"
وكن خوفي
وكن فرحي
وكن ملح الشرايين"

وقد أضفت الموسيقى جوا جميلا على آفاق هذا الوجدان الصافي،متزامناً مع ترسيخ بعض الأفكار الذاتية التي حتما ستترسخ في ذهن المتلقي كما يحدث معي الآن.
"فلا تقرب لأجنحتي 
ولاتجعل رماد السجن يحرقني "

وكما أسلفت سابقا ، يحفل هذا التزاحم الشعوري بالتوازي الصوتي والتركيبي مما خلق جرسا موسيقيا يشنف الاسماع عند الانشاد .
وبنزوعي إلى تتبع البنية الأسلوبية أجد الشاعرة قد مزجت بين الاسلوب الخبري والاسلوب الانشائي ، فقد وظفت الخبر للتعبير عن مكنونات النفس المغتربة ، لأن الشاعرة كما نرى تحتفي في كلمة تكتبها بذاتها وتمزج الخيال باللوعة لتجسد لنا صورة شعرية غاية في الجاذبية ،فمع كونها سهلة التناول ولكنها تنطوي على دفانات تنأى بعيداً الإنكشاف الا بعد التركيز الشديد.
ومن خلال مناشدتها عبر الآف الأميال برؤى الخيال
اعتبرت كل هذا الانهمار المتجسد على الشاشة البيضاء نابع من الذات بهمومها وانكساراتها وتأملاتها .

"وكن في القلب
كل القلب
ياحبا على كل العناوين"

وبعد أن وصفت الشاعرة وأسبغت على ذلك الوصف عنصر الروحانية يتسامى الموصوف ويبتعد عن كونه شخصا عاديا، إذ يصبح رمزا متعاليا لدى الواصفة. 
فالشعر يبارك احساسنا بالحياة هذه هي الخلاصة
التي قرأتها في كتابات "العقاد"وكثير من الفلاسفة والمفكرين القدماء.
بعد "افلاطون" جاء أرسطو فأدرك من طبيعة الشعر وأثره مايدركه، لما يؤديه من وظيفة نفسية هي التطهير من العواطف المكبوتة.
فانحسر الإهتمام بعالم الوجدان والروح والقيم الانسانية. 
وفي عصر النضج العقلي قد يمتهن المرء ما يجعلنا نتصور انه بعيد عن الشعر خصوصا والأدب عموما كما هو حال شاعرتنا صاحبة النص آنفاً التي جمعت بين الشعر والطب.
أقول:
للشعر نظام وللطب نظام آخر وقد يكون بينهما إنسجام ،
وهذا الانسجام بين الطب والشعر جذره انساني عميق يهيمن بفلسفته على التحول عن هذا المذهب إلى ذاك وعن هذه الفكرة إلى تلك ، أو الانسجام التام بواسطة القاسم الإنساني المشترك بينهما.
نعم هي طبيبة اذاً هي انسانةً متنورة تحمل على جناحيها
مشاعر خفية لايتسنى لنا فك طلاسمها الا من خلال حسن الاستقراء لبيان صلتها بموضوعة هذا البحث.
فهناك تكامل موسيقي موضوعي في النص من حيث الشكل واصل امتداده من البدايات وحتى الخواتيم بنظام التفعيلة الحديثة هروبا من رتابة الايقاع الواحد.
وهذا التنوع مرده إلى الميل للتجديد والابتعاد عن التكرار الممل .
وقد حاولت الشاعرة بنجاح باهر توظيف بعض الأساليب الإنشائية التي لها تأثير كبير على المتلقي ليشاركها همومها وخلجات ذاتها.
وفي خضم هذه الرؤية المتواصلة لهذا المشهد الدراماتيكي ، لامناص من الاحساس بالإعجاب بهذا النص الوجداني العميق،على الرغم من كثافته العالية..خالص تقديري ،سيدتي..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق