الجمعة، 19 يوليو 2019

،تقاسيم على الهامش، ((استنطاق المكان لتحريك ذاتيته )) بقلم الشاعر الاديب عبد السادة البصري

عمودي الاسبوعي،،،تقاسيم على الهامش،،،في جريدة الدستور،،الاثنين 15 تموز 2019،،،محبتي لكم
((استنطاق المكان لتحريك ذاتيته ))
أن تستنطق المكان ، وتنفخ فيه الروح لتؤنسنه ،، هو اشتغال على تحريك ذاتيته وإعادة صياغته من جديد ، أو عملية نبش ما فيه من قوة كامنة بين صخوره لتخرج الكائنات الحيّة المتغلغلة ما بين ذرّات ترابه مهما تقادم عليه الزمن ، وغيّرته تقلبات الطقس ، ونزعات العابثين فيه من بني البشر و حفرياتهم عبر مرور السنين !!
في قصيدته التي تحمل ثريا نصها ( إلى مدينة الحلّة ) المنشورة ضمن مجموعته الشعرية ( ورقة الحلّة )، صنع الشاعر ( جبار الكواز ) من المدينة القديمة القابعة في أعالي ذاكرة أبنائها البابليين ، سفينةً ليؤكد صعوده فيها ومعه ما علق في مخيال ذاكرته من حكاياتٍ وصور ، ابتداءً من سني الطفولة وحكايات الأهل عن الآثار والأسلاف حتى الكهولة واختمار تلك الحكايات لتطلع في سماوات المدينة حكايات أخرى :ــ
( صغاراً
إلى الجنائن المعلّقة
صعوداً
إلى عين شمسنا )
من هنا تبتدئ حكايته مع المكان حيث يؤشر تاريخيا للمدينة منذ أن بناها نبو خذ نصّر ، ليأخذ بحجارتها وحدائقها ذرة ذرة وغصنا غصنا صانعاً سفينة حلمه :ــ
( لم تكن أصوات أسلافنا
سوى أنين حجارات قبورهم
الدارسة
ولم تكن أشجارها
أيامى
ولا نارنجها
كأس خمر
ولا سواقيها
عيون نساء )
من هذا العالم الغارق في لجة التاريخ ، وعند بناء سفينته الحلمية أخذ يعدد ما يراه بين هذه الحجارة من أرواح تتحرك هنا وهناك ،لتمنحه مفاتيح بواباتها السبع ، كي يدخل حاملاً فانوس ديوجين يضيء أمامه كل مغاليق المدينة الدارسة .
من أسوار المدينة وحرّاسها الوثنيين ، وطيورها الراقصة فوق البحيرات إلى الغاطسين في طينها اللازب ماسكين بسرّتها كي يصنعوا منها عالماً آخر تصدح في جنباته الفواخت ، وتتخاطف
طيور السنونو بين أغصانه ، ليعود وقد ندهه أذان الأفق العابر كل مساحات السمع حاملاً ألم الضياع والدمار :ــ
( نحن لم نتقن الخوف
ولم ندع أسوارها حطباً في
مواقد حرّاسها الوثنيين
وغرانيقها
الغاطسون في جبّ الطين
مسكوا سرّتها
بغناء الفواخت
وهجرة السنونو
وأذان افقها المجنون
بالألم )
بعد ذلك يبدأ صعوده شيئا فشيئا إلى سفينة الأحلام التي ابتكرها من جنائن مدينته المتهدمة، حيث قيدومها المكسور وأشرعتها التي مزقتها الريح ونسائها الجميلات المترملات وصولاً إلى الرقم الطينية التي تركها الأسلاف لتتداخل صور الذاكرة الحيّة بين الماضي والحاضر مازجاً أرواح الأولين المكتضّة بالألم والرؤيا عند ذرة تراب في إحدى طابوق جنائنها مع أرواحنا اللائبة التي تعيش جحيم الحاضر المشتعل بكل ما يمزّق الروح من وجع ونجوى :ــ
( صعوداً
الى قيدومها المكسور
الى أشرعتها الممزقة
الى عشتارها
وهي تلاعب الريح
بأرامل الرمل
الى مسمارها الضارب رقيمه
في أعناق أسراها
ووديان غاداتها
وعباءات نسوتها في تنور آب
صعوداً
الى أرواحنا المطفأة )
هنا تبدأ القصيدة بالسمو تدريجيا أو بالتداخل مع حاضر الشاعر ، حيث التراكيب المتمازجة بين ما كانت عليه المدينة من زهو وناسها الأولين حاملي مشعل الحضارة والعمران عبر ذاكرة التاريخ التي وصلت إلينا ، وبين ما نحياه من ألم ولذة وضياع!!
الشاعر هنا يصعد سلّم قصيدته عاليا حيث البوح الذاتي والاعتراف أمام مذبح الحكايات المقدسة راسماً صورة أخرى لمدينته التي سكنته منذ الصرخة الأولى :ــ
( الى أفئدتنا
وهي تغامر في كلمة غادرت
شفاهنا
نكاية بـ ( دار ،، داران ،، دور )
صعوداً
اليها
الى مصائد لذّاتها
الى اصطبلات ذكرياتها
الى أوراقها
في دفاتر النسيان
اليها
اليها
صعوداً )
وعندما يتربع على عرش حكايته ــ سفينة حلمه ــ التي هي المدينة الأثرية القابعة في زاوية الذاكرة يعود ليتساءل معها ــ هل أنت بابل التي أعرفها وسمعت بها ؟؟! أم أنت مجرد حكايات رسمتها ريشة الزمن على جلد ذاكرتنا ذات يوم ؟؟!! ، أم أحداث حفرت أيامها وصور ناسها بأزميل التاريخ في طين مخيلتنا الفتيّة ذات مساء ؟؟!!
( فلم تفكّر يوماً
أن صغارها اللاهين بأدراجها
كبروا
وهم يحدقون فيها
تلّ قمامة
فأشجارها عاقول
وثمارها أيتام
أضاعتهم الحروب
فضعنا معهم
وهي تستمع الى وقع خطانا
صعوداً
اليها
حيث لن تكون هناك
ولن نكون!!)
هنا يصل الى نقطة الانطلاق الأولى ، حيث خط النهاية لسباقٍ أراد أن يكون فلم يجرِ، فالمقبرة النائية خارج المدينة التي كان يلهو وأقرانه عليها أيام طفولته وصباه ، والتي صنعت الحكايات منها عوالم مخيفة ومسليّة ، وصنع منها سفينة أحلامه أيضا ،، بعد أن يفيق لم يجدها سوى بضعة كلمات تشير الى تلٍ سورته شجيرات العاقول خطوة بخطوة ، ليصرخ في وجه مدينته المعمّدة بالضحايا والقرابين :ــ ها قد صرت تراباً وبضعة حكايات في الكتب والذاكرة!!
ثم تعود سفينته لترسو في مؤخرة الخيال الإنساني للعالم أجمع وتبدأ حكايات أخرى وأخرى !!
الشاعر جبار الكوّاز صنع من حلمه ــ سفينته ــ هذه عالماً من الحكايات بعد أن نفخ في حجارتها الروح ليدخلنا مدينة كانت عامرة وزاهية لكنها الآن خرائب ينعق فيها البوم، انه رسم للمدينة القديمة الحديثة لوحة معمارية كسفينة نوح تعبر بحار مخيلتنا كل يوم !!!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق