السبت، 20 يوليو 2019

وسائل الصورة الشعرية في النص الشعري المعاصر الانزياح - نظرية جون كوهن - "مرحى غيلان" للسياب أنموذجا.بقلم الأديبة أ. حياة مسعودي

وسائل الصورة الشعرية في النص الشعري المعاصر
الانزياح - نظرية جون كوهن -
"مرحى غيلان" للسياب أنموذجا.
بقلم الأديبة أ. حياة مسعودي
*
إن الحديث عن الصورة الشعرية في النص الشعري المعاصر يقودنا بداهة إلى الحديث عن خصوصية هذا الشعر الذي يشكل قطيعة مع الشعر القديم مضمونا وشكلا،
ومن المعلوم أن الصورة في هذا الأخير كانت وسيلة الشاعر الأساسية في التعبير عن أغراضه ومعانيه، ويعد الجرجاني أول من قدم لها تعريفات منها (سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة. ) ، واعتبر ها الجاحظ عماد الشعر (الشعر فن تصويري يقوم جانب كبير من جماله على الصورة الشعرية)، إلى غير ذلك من تعريفات الدارسين المجمعة على اعتبارها شكلا تعبيريا يمزج بين الخيال واللغة والموسيقى والعاطفة،
وقد حصرتها البلاغة القديمة في أربعة أشكال : التشبيه، والاستعارة، والمجاز، والكناية .
ولَمّا كان الشعر المعاصر ثورة عميقة وحاسمة على الشعر القديم مرجعُها التحولات الجذرية العميقة التي استجدت على الوطن العربي منذ احتلال فلسطين، فقد كان من البديهي أن يسعى الشاعر المعاصر إلى إيجاد وسائل تتناسب وحداثة هذه التجربة بحيث تسنح له بقدر أوفر من الحرية في التعبير عن مواقفه وآرائه إزاء هذا الواقع بكل مستجداته بعدما ضاقت الصورة بمفهومها البلاغي القديم - بمفردها - عن ذلك، وسرعان ما قاده اطلاعه الواسع وثقافته العميقة ذات المشارب المتنوعة إلى العثور عنها في وسائل أخرى كالرمز، والأسطورة، والانزياح من دون الاستغناء عن الأشكال البلاغية التقليدية.
لقد وجد في هذه الوسائل الحديثة الشكل التعبيري المثالي الذي يُضَمِّنُهُ مواقفَه من الواقع والوجود، والذي يتيح له حرية أكبر في الجهر بها رغم هالة الغموض الناجمة عنها، واتخذها قناعا يمرّر عبره قناعاتِه ومواقفَه حتى غدت المرآة العاكسة لعالمه الشعري الخاص ولرؤياه بكل عناصرها الفكرية والوجدانية والجمالية، مطمئنا إلى إمكانيات القارئ الثقافية ومداركه اللغوية في استجلاء ذاك غموض، والاهتداء إلى مراميه.
سَأَخُصُّ بحديثي الانزياحَ اعتمادا على نظرية"جون كوهن" ببيان إطارها ومفاهيمها، مع تطبيقها على قصيدة "مرحى غيلان" للسياب، في خطوة نحو الانفتاح على الدراسات الشعرية الحديثة، وتجريبها في تحليل هذا العنصر الحيوي في المتن الشعري المعاصر .
ينطلق جون كوهن في تأسيس نظريته الشعرية والتي ضمّنها كتابَه (بنية اللغة الشعرية) من تصور بنيوي يستقي أسسه من منبعين نظريين أساسين : الشكلانية الروسية عند (جاكبسون) في مجال الشعر خاصة واللسانيات عند (دي سوسور)، ويرتكز بالأساس على اعتبار النص بنية مغلقة يلزم البحث في مكونانها الداخلية والقوانين المتحكمة فيها، ولهذا ينظر إلى مفهوم الصورة نظرة عامة تشمل جميع مستويات النص الشعري عبر مفهوم الانزياح. والذي يقع بالنسبة لمعيار ، وهكذا يعرف الشعر تعريفا نوعيا (فالشعر ليس نثرا يضاف إليه شيء وإنما هو نقيض النثر ) (1) وانزياح الشعر عن المعيار يجعل منه واقعة أسلوبية، والأسلوب عنده هو ما ليس شائعا ولا مألوفا، فهو انزياح بالنسبة لمعيار، اي خطأ ولكنه مقصود كما يسميه (برونو،) ويعتبر اللغة الشعرية واقعة أسلوبية في معناها العام ،والشعرية علم الأسلوب الشعري مؤكدا ان الفرق بين الشعر والنثر كمي، وبذلك يمكن قياس درجة الانزياح.
مستويات الانزياح
- المستوى التركيبي:
يفترض هذا المحور خاصية اللغة الزمنية إذ يتم النطق بالكلمات في تسلسلها وتتابعها في تآلف معتمد على الامتداد ، وهي تكتسب قيمتها من تفاعلها بما قبلها وما بعدها ، يسمي هذا التآلف "العلاقات السياقية" وهو تركيب يتألف عادة من عنصرين فأكثر.
من ناحية أخرى تثير الكلمة الواحدة من هذه كلمات أخرى بالتداعي تشترك معها في علاقة ما، فمثلا كلمة "ربيع " تستدعي كلمات : عشب - خضرة ...وهي توافقات لا تعتمد على الامتداد الخطي كالسابقة وانما على ما سماه (سوسور) ب"العلاقات الإيحائية" أو كما سماها علماء اللغة المحدثين : العلاقات الاستبدالية.
- المستوى الدلالي:
يدرس كوهن عدة صور انطلاقا من الوظائف النحوية للكلمات معتبرا أن كل كلمة وحدة معجمية تضطلع بوظيفة نحوية محددة داخل الجملة، ويقوم باستخراج القاعدة العامة التي تستلزم منها القدرة الدلالية على الاضطلاع بهذه المهمة.
1 - مستوى الاسناد:
يتجسد في صورتين :
الصورة الإسمية ( المسند إليه - الرابطة/ الصفة)
والصورة الفعلية(المسند إليه -الفعل)، ولكي يؤدي المسند وظيفته يجب أن ينتمي إلى نفس المجال الخطابي وإلا حدثت منافرة دلالية.
مثال الصورة الإسنادية الفعلية : "بكت السماء"وجب إسناد ( فعل البكاء)الى الكائن الحي لكنه أسند إلى شيء جامد ، هنا حدثت المنافرة / الانزياح، تقوم الاستعارة بنفيه عبر استبدال المدلول 1 (البكاء) بالمدلول 2 ( الإمطار).
- مثال الصورة الإسنادية الاسمية: " الإنسان ذئب لأخيه الإنسان" هنا تنافر بين المسند والمسند إليه.
ذئب : المدلول 1 (حيوان) بالمعنى الحرفي، و (شرير)بالمعنى الإيحائي .
إذن يتكون ميكانيزم ما هو شعري من شيئين :
حالة الانزياح تمثلها المنافرة الدلالية، وحالة نفي الانزياح وتقوم به الاستعارة إذ تستبدل المدلول 1 بالمدلول 2 .
يعطي جون كوهن مفهوما واسعا للاستعارة يشمل جنس صور تغيير المعنى، وهذا التغيير ينتج أنواعا مختلفة من المجازات، فإذا كانت العلاقة المشابهة نكون بصدد الاستعارة، وإذا كانت المجاورة نكون بصدد الكتاية، وإذا كانت العلاقة الجزئية والكلية نكون بصدد المجاز المرسل.
الاستعارة خرق لقانون اللغة تتحقق في المستوى الاستبدالي الذي يضطلع به المتلقي.
2 - مستوى التحديد:
التحديد إجراء لغوي يتم من خلاله تحديد الأشياء بإضافة كلمة أو أكثر لتحديد "نوع" او "جزء" او "فرد" تسمى محددات.
يؤدي النعت وظيفة التحديد حين يميز النوع داخل الجنس، وليتحقق هذا الدور ينبغي أن لا يشمل إلا جزءا من مساحة الاسم وإلا أصبح عاجزا عن أداء وظيفته التحديدية ، يُسَمّي "كوهن" هذا النوع من النعت ب (الحشو)، وهنا تعمل اللغة على خرق مبدإ "الاقتصاد" الذي يقوم عليه النثر والذي يقتضي الاستعناء عن الكلمات غير الضرورية.
مثال(إن الفيلة الحرشاء تتجه إلى موطنها الأصلي)
ف الحرشاء : نعتٌ "حشو" لا يحدد نوعا ولا يضيف شيئا، وهو لم يؤد وظيفته التحديدية، وبالتالي هو انزياح لغوي خالص.
3- مستوى الوصل.
من معانيه "الجمع"، وهو ما يسمح بتوجيه نظرنا إلى تعاقب الجمل (المتتاليات) في الخطاب، وما تشترطه من الانتماء إلى نفس المجال الخطابي ومن الانسجام الصرفي والوظيفي، وإن حصل غير ذلك نكون بصدد ما سماه (الانقطاع)، وهو مقصور على الشعر دون النثر الذي يتميز باللغة العقلية لأنها تروم الإبلاغ بينما لغة الشعر انفعالية تروم التأثير، وتتوقف على المتلقي لأنه هو من يقوم بعملية نفي الانزياح/الانقطاع.
يقدم كوهن مثالا له (كانت "روث" تفكر و "بوز" يحلم ، العشب كان أسودا)
متتاليات تعكس مزيجا مما هو معنوي وما هو مادي، حصل الانقطاع بتدخل مباغت (العشب.... )
يتضح بعد هذا العرض المختصر تجاوز "جون كوهن" للمنظور التصنيفي الذي وقفت عنده البلاغة التقليدية، إذ عمد إلى إيجاد بنية مشتركة تجمع بين الصور البلاغية غير أنه يلتقي بها في تفضيل الاستعارة ممثلة في الانزياح الاستبدالي على الكناية ممثلة في الانزياح التركيبي لكونها قائمة على المجاورة وهو على حد تعبير حميد الحميداني" (موقف ينسجم ومنطلقه المبدئي في تفضيل اللغةالشعرية التي تغلب فبها الاستعارة على كل لغة في النثر.) (2)
- تطبيق على نص "مرحى غيلان" للسياب.
مرحى غيلان
بابا .. بابــــــا
ينسابُ صوتك في الظلامِ إليّ كالمطر الغضيرِ
ينسابُ من خلل النعاسِ وأنت ترقد في السريرِ
من أي رؤيا جاء؟ أي سماوةٍ؟ أي انطلاقِ؟
وأظلّ أسبحُ في رشاشٍ منه أسبحُ في عبيرِ..
فكأن أودية العراق
فتحت نوافذ من رؤاكَ على سهادي: كل وادِ
وهبتهُ عشتار الأزاهر والثمار. كأن روحي
في تربةِ الظلماءَ حبّة حنطةٍ وصداكَ ماءُ
أعلنتِ بعثي يا سماءُ
هذا خلودي في الحياة تكنُّ معناهُ الدماءُ
"بابا" ..كأنّ يد المسيحِِ
فيها، كأنّ جماجمُ الموتى تبرعمُ في الضريحِ
تموز عاد بكل سنبلةٍ تُعابثُ كلّ ريحِ
"بابا... بابــــــا"
أنا في قرارِ بويبَ أرقد.. في فراشٍ من رمالِه
من طينهِ المعطور, والدمُ من عروقي في زلالِه
ينثال كي يهب الحياة لكلّ أعراقِ النخيل
أنا بَعْلُ: أخــطر في الجليل
على المياهِ، أنثّ في الورقاتِ روحي والثمار
والماء يهمس بالخرير.. يصلّ حولي بالمحارِ
وأنا بويبُ أذوب في فرحي وأرقد في قراري
"بابا.. بابــــا"
يا سلّم الأنغام, أيّةُ رغبةٍ في قرارِك؟
"سيزيف" يرفعها فتسقط للحضيض مع انهيارك
يا سُلّمَ الدم والزمان: من المياه إلى السماءِ
غيلان يصعد فيه نحوي من تراب أبي وجــدّي
ويداه تلتمسان, ثَّم, يَدي وتحتضنان خـــدّي
فأرى ابتدائي في انتهائي
"بابا .. بابــــا"
جيكور من شفتيكَ تولّدَ،من دمــائك، في دمائــي
فتحيل أعمدة المدينة
أشجار توتٍ في الربيع, ومن شوارعها الحزينة
تتفجّر الأنهار، أسمع من شوارعها الحزينة
ورَقَ البراعم وهو يكبر أو يمصُّ مع الصباح
والنّسـغَ في الشجراتِ يهمـس، والسنابل في الرياحِ
تَعِدُ الرحى بطعامهنّ .
كأن أوردة السمــــــاء
تتنفس الدم في عروقي والكواكــب في دمائي
يا ظــلّي الممتدّ حين أموت، يا ميلاد عمري من جديدِ
الأرضُ( يا قفصاً من الــــدم والأضافر والحديــدِ
حيث المسيحُ يظلُّ ليسَ يموت أو يحيا... كظــلٍّ
كَيــدٍ بلا عصبٍ ، كهيكــل ميّتٍ ، كضحى الجليدِ
النور والظلماءُ فيهِ متاهتانِ بلا حدودِ )
عشتارُ فيها دون بعلٍ
والموتُ يركض في شوارعها ويهتف : يا نيــامُ
هبّوا ، فقد وُلِــــدَ الظلامُ
وأنا المسيحُ أنا السلامُ
والنارُ تصرخُ يا ورودُ تفتّحي, وُلِــــدَ الربيعُ
وأنا الفراتُ،ويا شموعُ
رشّي ضريح البعلِ بالدم والهُباب وبالشحوبِ
والشمسُ تُعــــوِّلُ في الدروبِ
بردانةٌ أنا والسماءُ تنوءُ بالسحب الجليدِ
" بابا.. بابـــــا"
من أي شمسٍ جــاء دفــــؤكَ أيّ نجمٍ في السماءِ؟
ينســلُّ للقفصِ الحديدِ ،فيورقُ الغدُ في دمائي؟
من الصور الاسنادية:
- ينساب صوتك
صورة إسنادية فعلية أسند فيها الشاعر فعل الانسياب إلى الصوت .
التعبير الحرفي 1 : ينساب : حالة الماء من الرقة حين الجريان،
التعبير الإيحائي 2: ينطلق صوت ابنه "غيلان" وهو يلفظ "بابا" عذبا رقيقا .
تحقق الانزياح في المستوى السياقي، وتم نفيه في المستوى الاستبدالي ..فهي استعارة.
- ينساب صوتك في الظلام كالمطر الغضير
صورة إسنادية فعلية، المنافرة بين المدلول1 السابق والمدلول الإيحائي: صوت الوليد يصل أسماع الشاعر عذبا رقيقا رقة المطر الغضير وبهذا تم نفي الانزياح.
- ينساب من خلل النعاس: نفس الصورة لكن في حالة خلل النعاس اي مابين اليقظة والنوم.
- من اي رؤيا جاء
إسناد المجيء إلى الصوت. وصدوره من عالم الرؤيا ،هنا المنافرة/الانزياح ، لأن الرؤيا مرتبطة بعالم غير مشهود والصوت تحقق في الواقع المشهود،
نفي الانزياح بالمدلول الإيحائي أن جمال صوت "غيلان" لايمكن تصوره، فهو يفوق أي جمال مشهود
- أظل أسبح في رشاش منه.
تحقق الانزياح بإسناد سمة الماء للصوت بأن جعل له رشاشا، والمعنى الإيحائي: استمتاعه برقة وموسيقى صوت الصغير "بابا" كما يستمتع وينتعش برشاش الماء.
- كل واد بعثته عشتار الأزاهر والثمار.
أسند فعل العطاء لكائن أسطوري عشتار رمز البعث والخصب وتجدد الحياة، والمعنى الإيحائي: الفرح لمقدم هذا المولود الذي يتحقق به بقاؤه بعد موته .
- أعلنت بعثي يا سماء
أسند إعلان بعثه إلى السماء، ، المنافرة تحققت بإسناد سمة خاصة بالأحياء للسماء، المدلول الإيحائي : أعلنتَ يا الله ، اي ان المراد خالق السماء لا السماء فالعلاقة جزئية.
- جيكور من شفتيك تولد.
صورة إسنادية فعلية، إسناد الولادة إلى "جيكور" قرية الشاعر، وهنا انزياح يتم نفيه بالمعنى الإيحائي/ الاستبدال : جيكور هي انتماء الشاعر الذي يتقوى ويتعمق بتحسسه لكلمة "بابا "من فم ابنه لأنها تعزز الإحساس بأبوته وتعزز "أبوة" جيكور له ، فغيلان ابنه وهو ابن جيكور.
- أنا في قرار بويب
أرقد في فراش من رماله
صورة مركبة:هنا تنافر بين "الأنا" والكينونة في نهر "بويب" لكونه قرارا للماء لا للنوم، والمدلول الإيحائي: إحساسه بالطمأنينة من أعماقه/ أو تعمق انتمائه إلى جيكور(بويب نهر يمر خلالها)/أو تصور موته بقرار هذا النهر الذي هو أصله، والذي سيمكنه من البعث لكونه واهب الحياة لأعراق النخيل.
- أذوب في فرحي: إسناد الذوبان إلى الذات، والمنافرة نشأت من كون الذوبان خاصية فيزيائية لمادة من طبيعة معينة، وهي ليست كذلك للذات الإنسانية، والمدلول الإيحائي: التعبير عن أوج فرحه.
صور التحديد:
- ومن شوارعها الحزينة.
الحزينة: نعت محدد، أضفى صفة الحزن الإنسانية على الشوارع، وهنا تعارض بين المنطوق والمفترض أي الناس، والعلاقة الكلية، والمدلول الإيحائي: كلمة" بابا" حملته على الفرح إلى الحد الذي جعله يضفيه على من حوله من الناس الحزينين في الشوارع.
- يا ظلي الممتد حين أموت.
ف: الممتد نعت للظل ، وهو لا يضيف صفة لأن الامتداد خاصية بديهية للظل، فهو نعت حشو، يتم نفيه بالاستبدال : "غيلان" امتداد لحياته.
- صور الوصل:
- أخطر في الجليل وأنثر قي الورقات روحي والثمار.
عدم انسجام بين بين المتتاليتين أي انقطاع، إذ مزج بين المادي والروحي.
المدلول 2: بلوغ التضحية بنفسه بأن ينثر روحه في الورقات والثمار هبة لأهل العراق.
يتضح جليا خضوع النص لشعرية الرمز والمشابهة عبر الانزياح في مستوييه التركيبي والدلالي أساسا ويكشف عن ثنائية طاغية (الحياة - الموت). فصور الحياة ممثلة في الطبيعة ورموز الخصب والبعث في : بعل، (تموز /عشتار)-أودية العراق، نهر بويب ، تشاركه جميعها الفرح والاحتفال ب"تحقق النطق عند صغيره "غيلان" فيرى فيه امتداده، ويعمق لديه انتماءه لجيكور /العر اق، لكن سرعان ما يخبو هذا الفرح وتختفي معالم الحياة ، ويتضح هذا في صور عدة(حزن الشوارع - ركض الموت - ولادة الظلام - عويل الشمس...) وهذا يفضي بنا إلى القول بعلاقة التقابل بين صور الحياة /الفرح وصور الموت /التشاؤم، وينتهي النص بانتصار "الموت" الكاشف عن رؤية سوداوية قاتمة تطغى على مجموع النص يكشف من خلالها عن حقيقة الصراع بين الحياة والموت وتجلياتهما المتناقضة على أرض الواقع ،فلئن كان "غيلان" امتداده بعد موته وبه يتحقق بعثه، فإنه - في حقيقة الأمر- بخلاف ذلك لجيكور /العراق ، ومن المستحيل أو البعيد أن تتبدد قتامة الواقع لمجرد فرحه بمولوده، لقد تصور أن الأودية والشوارع وكلَّ "جيكور" تشاركه الفرح لمقدمه بأن جردها من مظاهر القتامة تلك، وغمرها بالحياة والأزاهر والورود، نعم كان هذا كله مجرد تصوّر تراءى له في لحظة فرح، والواقع ظل على ما هو عليه ولذلك ظل متأرجحا بينهما .
إن الهدف الأساسي من تطبيق هذه النظرية على نص السياب هو افتراض مواءمتها لحداثة الشعر المعاصر، فمن غير المنطقي إخضاع الصورة داخله لمقتضيات البلاغة القديمة بطابعها التصنيفي ، وبطبيعة نظرتها الضيقة إلى الصورة عبر تجزيئها واقتلاعها من القصيدة دون النظر فيما تثيره من تفاعلات داخلها ، وهذا على النقيض من الطابع العام لنظرية "ج.كوهن" والذي يشمل كل مستويات الصورة وعلاقاتها والقوانين التي تحكمها، علاوة على قدرتها على ملامسة الجانبين الدلالي والنفسي بما يؤشر على العالم الشعري الخاص للشاعر بمعالمه الفكرية والانفعالية والجمالية.
ألاستاذة حياة مسعودي
______________________________________________
المصدر: ديوان بدر شاكر السياب - المجلد الأول- دار العودة بيروت 1989.
المراجع:
(1) - جان كوهن - بنية اللغة الشعرية، ترجمة محمد الولي والعمري محمد - ص (49) الطبعة 1\1986
(2) حميد الحميداني- أسلوبية الرواية ص(64)- ط1/ مطبعة النجاح الجديدة 1989.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق