الوشيجة الموسيقية ومهبّ التداعي في تجربة يوسف بنعون النثرية:
............................................
لقد تحدثنا حول مفهوم التدوير الموسيقي ( العروضي) في متابعاتنا السابقة لثلاث تجارب شعرية خصصنا بها كل من الروائية الشاعرة اللبنانية سارة الزين Sara Alzainوالاديب محفوظ فرج السامرائي والاديب غسان الحجاج من العراق..وكل منهم كان يكتب شعراً موزوناً عمودا او تفعيلة على عروض الفراهيدي ببحوره المعروفة..
اما الان فقد لفتت أنظارنا تجربة ومضية متميزة بالغة الفرادة للأديب Yousef Benaoun.. لقد لاحظنا حرص هذا المبدع على تحقيق نوع من التدوير الموسيقي ولكن خارج العروض الشعري ،وعبر النص النثري على وجه التحديد..هذا الهدف كما يبدو لي بات يضغط على بنعون كمحاولة منهجية لاكتشاف او تجريب فعل ابداعي يملك خصوصيته الخاصة..
كما هي حال هذه الومضة مثلا:
.
(والفرحُ سرادقٌ بعينيكِ، صبابةُ عشقٍ أقامَ للولهِ ترانيمَ صباحٍ أشرقَ بما بينَ نهديكِ لُجينَ شوقٍ ،
طائرٌ بهِ الفجرُ محلِّّقٌ،
تجمّلَ الصباحُ بكِ فرِحاً)..
.
فهو وان سلك الى هدفه اسلوبية الضربات الخاطفة،ولكنه شديد الحرص على تحقيق الومضة( الفقرية)المتصلة سياقاً ومساقاً بدون اي فاصلة تذكر،وبما يقود الى وصل الكلام بالكلام وكأننا في سياق جملة مفيدة واحدة وبنفس واحد.
يصعب على المتلقي غير المحترف ،واعني غير المتخصص،كثيرا ،استلام فكرة الوصل الموسيقي الدفين هذه..
.
(بجوفِهِ التأريخُ خرائطُ تتلوّى بزندٍ باسقِ الكبرياءِ يبعثُ صمتُكم عنهمُ خناجرَ تقتصُّ للأرضِ دماً أخضرَ الأمنياتِ مهلّلاً بكمُ الصباحُ وطناً..)
.
وطبعا ،تجدر الاشارة الى آن الاستاذ يوسف يشتغل وفق نوع من التداعي المدفوع بذات الهدف الموسيقي..وليس هذا وقت الحوار حوله الان..
ولكننا نحيل مرة اخرى الى ضرورة استيعاب مفهوم ( جرس المفردات)،وان لكل مفردة موسيقى دفينة خاصة بها،من اجل ان يتم استيعاب المفهوم الاوسع ونعني به صلة موسيقى كل مفردة مع ماقبلها ومابعدها في مدور ايقاعي واحد كما قدمنا،وإذا كنا نتحدث عن الموزون فيما تقدم من المتابعات،فإننا نتحدث عن الكلام غير الموزون او البعيد عن بحور الشعر المعروفة هذه المرة..
.
(وعشقي وغرامي لأجلسنَّ لكِ كلَّ قبلةٍ و نفَسٍ يرتوي به الحنينُ حتى تهمسين أنْ كفى، فقد انساني حبُّكَ انني امراةٌ من نارٍ و لهب)..
.
اذن فنحن هنا لا نُعنى بالحديث عن الومضة او مثيلاتها كطراز ابداعي ما،فهذا امر اخر قد تم التطرق اليه في عشرات البحوث والدراسات،وانما نُعنى على وجه التحديد بمحاولة هذا الاديب تدوير النص المنثور إعتماداً على مجس الكلمات الموسيقي من خلال الفقرة الومضية المتصلة ذات النفس الواحد ،مع ضرورة عدم نسيان صلة الحركات الاعرابية في صياغة جرس المفردة او في تحقيق وشائجها مع المفردات الاخرى،وهذا بحسب تشخيصنا هو جديده المتواتر،الذي ينبغي عليه العناية به شخصياً، مع اننا لاحظنا متابعته له واصراره عليه،حدّ ان يركز الاهتمام عليه اكثر حتى من المضمون،انما نطلب منه الالتفات الى جوانبه الحرفية لحاجتة منهجيته اليها.
انما يتضح لنا شغله على هذا الاساس الذي يترك المضمون ليلحق به على الاقل مرحلياً ،وكأني به يسعى حثيثاً من اجل ترسيخ تجربته بقصد ايصالها الى مرحلة التوائم والتلاحم والانسجام الكامل بين السياق والمساق..وبالتالي ببن الشكل والمضمون..
هذا الامر بالذات،يرتبط وثيقاً بمداليل النص النثري ذي المواصفات والسمات والدخيلة الشعرية والذي اصطلح عليه الكثيرون اسم( قصيدة النثر) ،آملين بان يكون لنا حوله حديث خاص مستقبلا بعونه تعالى،ليس من قبيل التبرير ،فما عاد التبرير البراغماتي مناسباً لهذه المرحلة الابداعية الدقيقة،وانما من قبيل التفسير الذي يضع النقاط على الحروف بجراة ووضوح،عندها سنثير تساؤلات كبيرة ،لطالما سكتنا عنها طويلاً،ونظن ان الميقات قد حان لفتح باب الحوار عنه على مصراعيها..
وكان للزميل بنعون يد في تحريض فكرة التعرض لهذا الموضوع بالذات كونه لم يكتف بتدوير ومضاته فقط ،وانما انتقل رويداً ،الى نصوصه الطويلة ايضا،وهو ماكنا ننتظره منه اصلاً..
.
.(رؤوسٌ كثيرةٌ تطلُّ من وراءِ العبثِ،
ٱلقواريرُ فاغرةٌ افواهُها،
أعينُ الريحِ سمُلتْ بآخرِ السفحِ،
ٱلدمعُ قطراتٌ من ندى بأوراقِ المزارعِ،
ٱلفوضى مرتعٌ أجدبُ لثرثرةِ الليلِ،
قبلةٌ واحدةٌ للصلاةِ لا تكفي،
وقبلةٌ واحدةٌ من شفتيكِ كافيةٌ
كي يسقطَ الصباحُ بأحضانِ الترّهاتِ
كم مِنْ مآذنَ لجعلِ السماءِ مربعةَ الشكلِ
وكمْ من جبلٍ لتصبحَ الارضُ عريضةَ الطولِ
وانا كم من الخُيلاءِ تُعبِّدُ طرقَها اليكِ،
امّا ارتجاجُ صدى نبضي
فكم من صورةٍ مقطعيةٍ ستدوسُ ممراتِهِ،
هذا المائلُ بآخرِ الصدفةِ
تمثالٌ لمأتمِ الإحتقانِ
يرتّقُ فساتينَ الإحتفالِ بنوايا الالتحامِ
يشعلُ تواريخَ الانفصامِ اللاهوتيِّ المستطيرِ بالذاكرةِ
كاولِ الناطقينَ بجيفِ الصحراءِ
بصدأِ السيوفِ،
أنصالُ كرامةٍ تبتلعُ السنتَها
كم من درجٍ دائريٍّ سيقومُ وسطَ القطيعِ
وكمْ من راعٍ سيقتلُ رعيتَهُ بعدكَ
لستَ انتَ ما لم تَزرَعْ أهازيجَ الفرحِ،
ليسَ افضلَ منكَ تائهٌ بالملكوتِ،
يلفونكَ بوشاحٍ من توتٍ،
بالصباحِ ينثرونكَ سجْعاً لأشعّةِ الامنياتِ ،
ينتظرونَ أوبتكَ،
لن تعودَ إذا ما رحلتْ طوائفُكَ،
إخوانُكَ بالرضاعةِ،
أصحابُ البناءِ المحدودبِ بالاخدودِ،
قواسمُ الانتحالِ ،
إنّ سفراءَ الربِّ جيرانُكَ
لن تعودَ إذا ما فاضَ يمُّكَ بالنصوصِ،
تكونُ قد تعرّتْ سوءاتُكَ الكبرى
لكنكَ لي قائلٌ
انْ لا تبتعدَ بمساربِ الشوقِ،
وعرةٌ مساربُ انزياحِ الضبابِ
وطيفكَ هناك تتكاثرُ له أطرافٌ،
أجنحةٌ من سجّيلٍ،
مخالبٌ تغرزُ بالجسدِ المُنقضي به العطشُ،
وتنورةٌ شفّافةٌ
تهتفُ بالارتواءِ
لا نبيذَ يرخي سدولَهُ برأسي
ولا رضابكَ سجّلَ حضورَهُ بغيرِ حلمٍ منكسر ..)
.
وهذا كما نلحظ نص طويل ،ينحو منحى السرد الحداثوي،ويسلك الى مفاداته الاستشعارية مجس التداعي السوريالي الحر كما قدمنا،ولكن مبدعنا ،نجح في انتهاج هذا الاسلوب التدويري الموسيقي من البدء حتى الختام.
وهذا مانتمناه واقعاً على كتاب النص النثري الشاعري او( النثر الفني المركز)كمايسميه حسين مردان،او ( قصيدة النثر) كما يصطلح عليها الكثيرون حالياً،بغية ان يحظى هذا اللون الجميل بالهارموني الموسيقي الذي يعزز صلته بالشعرية حد الانسجام الكامل..
ورب عودة قريبة بعونه تعالى،ولكن:
( لكل حادث حديث..)..
............................................
لقد تحدثنا حول مفهوم التدوير الموسيقي ( العروضي) في متابعاتنا السابقة لثلاث تجارب شعرية خصصنا بها كل من الروائية الشاعرة اللبنانية سارة الزين Sara Alzainوالاديب محفوظ فرج السامرائي والاديب غسان الحجاج من العراق..وكل منهم كان يكتب شعراً موزوناً عمودا او تفعيلة على عروض الفراهيدي ببحوره المعروفة..
اما الان فقد لفتت أنظارنا تجربة ومضية متميزة بالغة الفرادة للأديب Yousef Benaoun.. لقد لاحظنا حرص هذا المبدع على تحقيق نوع من التدوير الموسيقي ولكن خارج العروض الشعري ،وعبر النص النثري على وجه التحديد..هذا الهدف كما يبدو لي بات يضغط على بنعون كمحاولة منهجية لاكتشاف او تجريب فعل ابداعي يملك خصوصيته الخاصة..
كما هي حال هذه الومضة مثلا:
.
(والفرحُ سرادقٌ بعينيكِ، صبابةُ عشقٍ أقامَ للولهِ ترانيمَ صباحٍ أشرقَ بما بينَ نهديكِ لُجينَ شوقٍ ،
طائرٌ بهِ الفجرُ محلِّّقٌ،
تجمّلَ الصباحُ بكِ فرِحاً)..
.
فهو وان سلك الى هدفه اسلوبية الضربات الخاطفة،ولكنه شديد الحرص على تحقيق الومضة( الفقرية)المتصلة سياقاً ومساقاً بدون اي فاصلة تذكر،وبما يقود الى وصل الكلام بالكلام وكأننا في سياق جملة مفيدة واحدة وبنفس واحد.
يصعب على المتلقي غير المحترف ،واعني غير المتخصص،كثيرا ،استلام فكرة الوصل الموسيقي الدفين هذه..
.
(بجوفِهِ التأريخُ خرائطُ تتلوّى بزندٍ باسقِ الكبرياءِ يبعثُ صمتُكم عنهمُ خناجرَ تقتصُّ للأرضِ دماً أخضرَ الأمنياتِ مهلّلاً بكمُ الصباحُ وطناً..)
.
وطبعا ،تجدر الاشارة الى آن الاستاذ يوسف يشتغل وفق نوع من التداعي المدفوع بذات الهدف الموسيقي..وليس هذا وقت الحوار حوله الان..
ولكننا نحيل مرة اخرى الى ضرورة استيعاب مفهوم ( جرس المفردات)،وان لكل مفردة موسيقى دفينة خاصة بها،من اجل ان يتم استيعاب المفهوم الاوسع ونعني به صلة موسيقى كل مفردة مع ماقبلها ومابعدها في مدور ايقاعي واحد كما قدمنا،وإذا كنا نتحدث عن الموزون فيما تقدم من المتابعات،فإننا نتحدث عن الكلام غير الموزون او البعيد عن بحور الشعر المعروفة هذه المرة..
.
(وعشقي وغرامي لأجلسنَّ لكِ كلَّ قبلةٍ و نفَسٍ يرتوي به الحنينُ حتى تهمسين أنْ كفى، فقد انساني حبُّكَ انني امراةٌ من نارٍ و لهب)..
.
اذن فنحن هنا لا نُعنى بالحديث عن الومضة او مثيلاتها كطراز ابداعي ما،فهذا امر اخر قد تم التطرق اليه في عشرات البحوث والدراسات،وانما نُعنى على وجه التحديد بمحاولة هذا الاديب تدوير النص المنثور إعتماداً على مجس الكلمات الموسيقي من خلال الفقرة الومضية المتصلة ذات النفس الواحد ،مع ضرورة عدم نسيان صلة الحركات الاعرابية في صياغة جرس المفردة او في تحقيق وشائجها مع المفردات الاخرى،وهذا بحسب تشخيصنا هو جديده المتواتر،الذي ينبغي عليه العناية به شخصياً، مع اننا لاحظنا متابعته له واصراره عليه،حدّ ان يركز الاهتمام عليه اكثر حتى من المضمون،انما نطلب منه الالتفات الى جوانبه الحرفية لحاجتة منهجيته اليها.
انما يتضح لنا شغله على هذا الاساس الذي يترك المضمون ليلحق به على الاقل مرحلياً ،وكأني به يسعى حثيثاً من اجل ترسيخ تجربته بقصد ايصالها الى مرحلة التوائم والتلاحم والانسجام الكامل بين السياق والمساق..وبالتالي ببن الشكل والمضمون..
هذا الامر بالذات،يرتبط وثيقاً بمداليل النص النثري ذي المواصفات والسمات والدخيلة الشعرية والذي اصطلح عليه الكثيرون اسم( قصيدة النثر) ،آملين بان يكون لنا حوله حديث خاص مستقبلا بعونه تعالى،ليس من قبيل التبرير ،فما عاد التبرير البراغماتي مناسباً لهذه المرحلة الابداعية الدقيقة،وانما من قبيل التفسير الذي يضع النقاط على الحروف بجراة ووضوح،عندها سنثير تساؤلات كبيرة ،لطالما سكتنا عنها طويلاً،ونظن ان الميقات قد حان لفتح باب الحوار عنه على مصراعيها..
وكان للزميل بنعون يد في تحريض فكرة التعرض لهذا الموضوع بالذات كونه لم يكتف بتدوير ومضاته فقط ،وانما انتقل رويداً ،الى نصوصه الطويلة ايضا،وهو ماكنا ننتظره منه اصلاً..
.
.(رؤوسٌ كثيرةٌ تطلُّ من وراءِ العبثِ،
ٱلقواريرُ فاغرةٌ افواهُها،
أعينُ الريحِ سمُلتْ بآخرِ السفحِ،
ٱلدمعُ قطراتٌ من ندى بأوراقِ المزارعِ،
ٱلفوضى مرتعٌ أجدبُ لثرثرةِ الليلِ،
قبلةٌ واحدةٌ للصلاةِ لا تكفي،
وقبلةٌ واحدةٌ من شفتيكِ كافيةٌ
كي يسقطَ الصباحُ بأحضانِ الترّهاتِ
كم مِنْ مآذنَ لجعلِ السماءِ مربعةَ الشكلِ
وكمْ من جبلٍ لتصبحَ الارضُ عريضةَ الطولِ
وانا كم من الخُيلاءِ تُعبِّدُ طرقَها اليكِ،
امّا ارتجاجُ صدى نبضي
فكم من صورةٍ مقطعيةٍ ستدوسُ ممراتِهِ،
هذا المائلُ بآخرِ الصدفةِ
تمثالٌ لمأتمِ الإحتقانِ
يرتّقُ فساتينَ الإحتفالِ بنوايا الالتحامِ
يشعلُ تواريخَ الانفصامِ اللاهوتيِّ المستطيرِ بالذاكرةِ
كاولِ الناطقينَ بجيفِ الصحراءِ
بصدأِ السيوفِ،
أنصالُ كرامةٍ تبتلعُ السنتَها
كم من درجٍ دائريٍّ سيقومُ وسطَ القطيعِ
وكمْ من راعٍ سيقتلُ رعيتَهُ بعدكَ
لستَ انتَ ما لم تَزرَعْ أهازيجَ الفرحِ،
ليسَ افضلَ منكَ تائهٌ بالملكوتِ،
يلفونكَ بوشاحٍ من توتٍ،
بالصباحِ ينثرونكَ سجْعاً لأشعّةِ الامنياتِ ،
ينتظرونَ أوبتكَ،
لن تعودَ إذا ما رحلتْ طوائفُكَ،
إخوانُكَ بالرضاعةِ،
أصحابُ البناءِ المحدودبِ بالاخدودِ،
قواسمُ الانتحالِ ،
إنّ سفراءَ الربِّ جيرانُكَ
لن تعودَ إذا ما فاضَ يمُّكَ بالنصوصِ،
تكونُ قد تعرّتْ سوءاتُكَ الكبرى
لكنكَ لي قائلٌ
انْ لا تبتعدَ بمساربِ الشوقِ،
وعرةٌ مساربُ انزياحِ الضبابِ
وطيفكَ هناك تتكاثرُ له أطرافٌ،
أجنحةٌ من سجّيلٍ،
مخالبٌ تغرزُ بالجسدِ المُنقضي به العطشُ،
وتنورةٌ شفّافةٌ
تهتفُ بالارتواءِ
لا نبيذَ يرخي سدولَهُ برأسي
ولا رضابكَ سجّلَ حضورَهُ بغيرِ حلمٍ منكسر ..)
.
وهذا كما نلحظ نص طويل ،ينحو منحى السرد الحداثوي،ويسلك الى مفاداته الاستشعارية مجس التداعي السوريالي الحر كما قدمنا،ولكن مبدعنا ،نجح في انتهاج هذا الاسلوب التدويري الموسيقي من البدء حتى الختام.
وهذا مانتمناه واقعاً على كتاب النص النثري الشاعري او( النثر الفني المركز)كمايسميه حسين مردان،او ( قصيدة النثر) كما يصطلح عليها الكثيرون حالياً،بغية ان يحظى هذا اللون الجميل بالهارموني الموسيقي الذي يعزز صلته بالشعرية حد الانسجام الكامل..
ورب عودة قريبة بعونه تعالى،ولكن:
( لكل حادث حديث..)..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق