الأحد، 11 أغسطس 2019

قراﺀة في المجموعة الشعرية " عتاب البنفسج " للشاعرة رنا صالح الصدقة بقلم الاديب :أحمد السيد


قراﺀة في " عتاب البنفسج "
بقلم :أحمد السيد
عنوان لافت ابتكرته شاعرتنا المبدعة رنا صالح الصدقة لمجموعتها الشعرية هذه ..
و إن كان ( عتاب ) ما لا يعقل خيال استعاري فلم ( البنفسج) تحديدا ؟
نعم .. إن أوراق هذا النبات تتجسد في أشكال قلبية : كل ورقة قلب أو شبه قلب .. و لذا - و كما لدينا طيور نطلق عليها عصافير الحب - فهذا النبات هو الجدير بأن يكون نبات الحب ..
نبات معمَّر يقاوم مختلف الظروف ..
نبات قديم عرفته أساسا قارات الحضارات ( آسيا و أفريقيا و أوروبا ) ..
نبات جميل وديع بلونيه الأساسيين البنفسجي و الأبيض ( فضلا عن ألوان أخرى أقل انتشارا )
و عليه تتخذ الشاعرة السورية المتألقة من هذه الرمزية الموحية قناعا لوجدانياتها الذاتية في الحب و مقاومة المصاعب .. توكيدا لهويتها النقية في البوح الإنساني من قلب ينبض بحب الحياة
🌟مصادر التجربة الشعرية 🌟
ه------------------------------
يمكن إجمال مصادر التجربة الشعرية لأي شاعر بالمصدر الثقافي ( القراﺀات التكوينية ) و المصدر الواقعي الحياتي ( من خلال اكتنازه للانفعالات صدى لما يعيشه ) و المصدر الذاتي الإبداعي الذي يجترحه الشاعر بمخيلته و تحليقه في سماوات جديدة
و بالمصدر الأخير يتمايز المبدعون
على أن قسما من منظّري الأدب يغالون فيزعمون أن كل نص هو وليد العديد من النصوص التي تمثّلَها المبدع من هُداته في طريق الإبداع .
و لذلك تم اقتراح ( التناصّ ) في دراسة المنتج الأدبي في بدايات النصف الثاني من القرن المنصرم لاجل فحص الرقائق النصية المتداخلة المكونة للنص الجديد .
و الحق يقال : إن صاحبة هذه المجموعة - على ما تشي به نصوصها من قراﺀات شعرية عديدة - قد هضمت قراﺀاتها و تمثّلتها تمثلَ النبات ( البنفسج مثلا ) للماﺀ و التراب و الشمس و الهواﺀ .. فلن تجد هذه المكونات في النتيجة .. و هذه الكيمياﺀ الشعرية المحوّلة تحسب لها .. فأستاذ أبي نواس مثلا طلب من هذا الشاعر العباسي أن يحفظ نحو مئة ألف بيت - لعل في ذلك مبالغة - على أن ينساها جميعا حين يشرع في قول شعره الذاتي ..
تثقّفْ لتمتلك الأدوات
ثم اكتب نبضك الخاص
و من تجليات التناص النادرة هنا :
- الاقتباس من القرآن الكريم :
تقول رنا الصدقة :
على شفا جُرُفٍ هارٍ تؤرجحني
- تضمين مقولة للإمام الشافعي :
تقول :
يزيد بقوله أزداد حلماً
- مجاراة فائية ابن الفارض الشهيرة ( قلبي يحدثني بأنك متلفي / روحي فداكَ عرفت ام لم تعرف )
تقول الشاعرة :
أنتَ الحبيبُ عرفتَ ام لم تعرفِ
- و مع محمود درويش صاحب ( احن إلى خبز امي و قهوة امي .. )
تقول رنا في قصيدة عن الأمومة ايضا :
إني أحنّ إلى فنجان قهوتِنا
و لو تأملنا ديوان شاعر عباسي كالمتنبي و أبي نواس مثلا لوجدنا نماذج للتناص أكثر و أجلى
فالصوت الذاتي هنا هو الطاغي .. و لكن لا مهرب من التأثر الناتج عن الإعجاب و الثقافة القرائية
🌟اللبنات العروضية المكونة لهذا البناﺀ البنفسجي 🌟
ه------------------------------
- جل قصائد المجموعة موزونة وفق بحور الشعر العربي المعروفة ( و عدد هذه البحريات ثمان و عشرون قصيدة )
و تتمتها قصيدتان تفعيليتان لافتتان موضوعيا ( إحداهما عن الأب و الاخرى عن الأم )
فهل تحرّر الشاعرة من صرامة نماذج الخليل مردّه عصف الانفعال الذي لا يحده قالب و هي تجأر بانتمائها للوالدين ؟
و هاتان القصيدتان التفعيليتان لا يربطهما فقط الانفعال ( مشاعر البنوة ) فقط بل ينضاف إلى ذلك وحدة التفعيلة الكاملية ( متفاعلن ) فتطول الأسطر او تقصر كامواج البحر وفق الدفق الشعوري .. و تتنوع القوافي وفق الدلالات
و اما القصائد البحرية فبنيت على أربعة بحور خليلية حسب .. و هذا حسابها :
- البسيط : اثنتا عشرة قصيدة
- الكامل : إحدى عشرة قصيدة
- الوافر : اربع قصائد
- الطويل : قصيدة واحدة
و نحن نعلم أن هذه البحور مما كتب عليه أصحاب المعلقات .. فالنتيجة ان ذائقة الشاعرة الموسيقية ضاربة الجذور في أعماق الشعر العربي و في تربة عصور ازدهاره ..
و اما الرويّ :
فلا نجد نصا واحدا من هذه القصائد الخليلية بقافية مقيدة ( ساكنة الروي )
كل القوافي هنا مطلقة .. و اختيار إطلاق حرف الروي دليل اقتدار و مهارة و ليس على قاعدة الوجوه الإذاعية القائلة : سكِّنْ تسلمْ
و أما دلالات أحرف الروي المحدودة التي بنت عليها الشاعرة قوافيها فتشير - مما تشير إليه - إلى الحدّة الانفعالية بإيثار الكسرة في احد عشر نصا و تجنب حروف الهمس ما خلا أربعة نصوص يضاف إليها وصل الروي بالهاﺀ في ثلاثة نصوص فاحرف الروي جهرت بها الشاعرة معبرة عن وطأة المعاناة الشخصية و هي جزﺀ من المعاناة العامة في سنوات كتابة هذه المجموعة .
و لا يتعارض هذا مع الميل الموسيقي للتنغيم و الترنم ( النون روي خمسة نصوص ) فالأمران متداخلان : القوة و النغم
🌟 قوس قزح البنفسج 🌟
ه------------------------------
و قد علمنا ان البنفسج قناع حب :
حب لشريك الحياة
و حب للأم
و حب للوالد
و حب للبنت
و حب للابن
و حب للاخت ( حقيقة أو مجازا )
و حب للوطن : الشام
و حب للمدينة : النبك
و حب لاهل العطاﺀ في صورة المعلم المربّي
و حب لاقطارنا العربية : السودان نموذجا
.....

فالحب هنا موشور يظهر العاطفة الواحدة بألوانها المتعددة
و على الوان الحب هذه جميعا قصائد في المجموعة تجذّر هذا العنوان الرائع : عتاب البنفسج
بصورة عامة قصائد المجموعة وجدانيات ذاتية و هموم عامة تقرؤها الذات الشاعرة و غزليات و مشاعر أسرية و انتماﺀ وطني إلى الشأم و إلى النبك و إلى البيت . فهي صورة للزمان و المكان المحددين بنفس بشرية في غاية الإحساس
🌟 المطالع البارعة 🌟
ه----------------------------
عرف شوقي بنبوغه الفذ في استهلال قصائده . و لرنا الصدقة هذه الموهبة الدعائية .. فالشاعر الذي يستهل نصه ببيت جميل يشد انتباه القارئ لمتابعة النص في زمن يكثر فيه الشعراﺀ و يتضاﺀل - نسبيا - عدد القراﺀ .
تقول شاعرتنا في مستهل إحدى قصائدها :
منْ حرقةِ الوجدِ أم من غصةِ العبرِ
اركان روحي تداعت ساعة السفرِ
تسأل :
امن حرقة الحزن ام نتيجة الاختناق بالدموع و النشيج مالت الروح إلى الانهيار وقت السفر ؟
كلام ليس كأي كلام .. !
🌟 البراعة .. البراعة 🌟
ه------------------------------
و ليست هذه البراعة في المطالع حسب .. إنها أيضا في معمار النص إذ تقول في القصيدة نفسها :
أزرار عمري خطايا في يدي ألمي
فهل يُباعَدُ زرٌّ عن عُرا القدرِ ؟
فالقدر يمسك بتتالي عمرها إيلاما إمساكَ العروة بالزر
و في الصورة ما سماه أجدادنا بمراعاة النظير - و هو من سمات قصائد الشاعرة : ورود ألفاظ من حقل دلالي واحد خدمة لفكرة مختلفة -
فثمة ازرار و عرا و يد .. إلخ و مرد ذلك مخيلة خصبة و شاعرية متميزة .
و في ختام قصيدة اخرى تقول :
عذراٍ فإنَّ دموعي بللت ورقي
ضاعت حروفي و جفّت كلُّ أقلامي
هكذا يجل الرزﺀ عن وصف يدق - كما تغنى شوقي ذات يوم - فالشاعرة في ختام نص عن الأم تختنق بعبراتها و تحجم اقلامها عن الكتابة و تفلت منها اللغة و تبتل الأوراق بالدموع ليكون ماﺀ العينين أبلغ و أكثر تعبيرا عن الحزن الذي لا يكتب و لا يقال .
🌟 الخيال الشعري 🌟
لا تتعمد شاعرتنا المبالغات التخيلية و لا محاكاة الأوائل .. إن التعبير الشعري هنا لا بد أن يحظى بصدق المبدع بغية التأثير الوجداني في المتلقي .
و تمثيلا لذلك يمكن أن نتلقى قصيدة الشاعرة ( همسات عاشقة ) و فيها مثلا :
موج الحياﺀ - لتستريح من العنا -
عند السواحل يستقلّ جنوني
ينشقّ بحريَ فاتحا أحضانه
لقوافل قبطانها يحييني
خيال بحري - بري في وقت واحد : فللحياﺀ موج يصل السواحل و يواصل اندفاعه عبر جنون الشاعرة
فالجنون يحمل هذا الموج
او بالانتقال إلى الدلالات : تتخلى العاشقة عن الهدوﺀ ( الحياﺀ ) إلى العصف ( الجنون )
و ينشق بحر العاشقة حبا مستقبلا قوافل العطاﺀ الغرامي بقيادة الحبيب ( قبطان الحب )
هذا الخيال الكلي يتكرر في غير موضع من هذه المجموعة البديعة
🌟التشكيل اللغوي 🌟
ه----------------------------
و تتعامل الشاعرة مع الجملة العربية و التركيب اللغوي و التأليف الخطي تعامل فنان مع عجينته : يشكلها كيف شاﺀ :
بليلى كنتَ مجنوناً كقيسٍ
و عنترةً بحبّكَ كنتَ تشدو
أليس التراتب التأليفي في النثر أن يقال :
كنت مجنونا كقيس بليلى
و كنت عنترة تشدو بحبك
🌟 1/1🌟
من المعهود أن يعبر الشاعر العربي عن محبوبته بكناية المذكر أحيانا .. فيقول إبراهيم ناجي مثلا :
يا حبيبا زرت يوما أيكه
...
و قصده : يا حبيبة
و هذا المذهب شائع في الشعر العربي منذ القديم ..
و لكن شاعرتنا المجيدة تسجل هدفا في مرمى الشعر . فقد تعود إليها الضمائر كأنها شاعر لا شاعرة ( من باب التغليب )
و لعلها - في القصائد التي ظهرت فيها هذه التقنية - تتقمص شخصا تتحدث بلسانه كما كان يفعل نزار قباني حين يتقمص شخصية المرأة ليتحدث بصوتها و ينقل همومها .
🌟 و في الختام 🌟
ه-------------------------
إن الشعر العربي اليوم يشهد فورة في تعدد أصواته و غزارة إنتاجه . و تقتحم المرأة العربية بكل جدارة ديوان العرب و جامع فنونهم .
و ما كل من نشر يستحق أن تميل إليه هامات الإعجاب فتنصت الآذان و تتطلع العيون و تخفق القلوب .
.
لا بد من الغربلة
و الشاعرة السورية رنا صالح الصدقة - ضمن كوكبة مماثلة من الشواعر - تستحق الاهتمام و تلقّي تجربتها المتميزة لصالح الإبداع حرصا على فن العرب القولي الأول
حلب في
2019/8/3م
.....
الغلاف من تصميم الأستاذ محمد نذير الترك


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق