ربما لم يصدق أحد الشاعر جيمس تومسن وهو يصف عاصمة الضباب بأنها مدينة الليل المرعب في أوج غرور المدن وهي تحتفي بمبانيها وشوارعها المزدحمة . وها هي لندن ومدن كبرى في كل أنحاء العالم تستغيث وتحذر..نداء لكل الناس كي يستعيدوا إنسانياهم ويتداركوا الخطأ الفادح والمأساوي...السلام والخير والصحة لكل الناس
مدينة الليل المرعب
شاكر حسن راضي، أستاذ مساعد
قصيدة طويلة للشاعر الأسكتلندي جيمس تومسن ( بي. في) (1834-1882) كتبها خلال الفترة الممتدة ما بين 1870 و 1873. أطلق الشاعر على نفسه إسم " بيشي فانوليس" تيمناً بإسم الشاعر الرومانسي الثوري بيرسي شيلي. وقد عانى جيمس تومسن من حالة حزن وإكتئاب طويلة كما كان مولعا بالسفر إلى أماكن نائية في حينها.
كتبت القصيدة على صورة مدينة لندن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الذي شهد توحش الثورة الصناعية والمدن الكبيرة وإنهيار الريف والقيم التي نشأ عليها جيل من الشعراء والأدباء والمثقفين. وعلى الرغم من سوداوية القصيدة في موضوعها ونغمتها حظيت بإعجاب النقاد والشعراء ومنهم الشاعر جورج سينتسبري الذي كتب عنها " ما ينقذ تومسن هو الكمال الذي يعبّر فيه عن الجانب السلبي واليائس لذلك الأحساس بالغموض" ووصفها الناقد المرموق رايموند وليامز بأنها " نسخة رمزية للمدينة بإعتبارها شرطاً من شروط الحياة البشرية. فهي حالة متخيلة لمدينة وعاصمة لإمبراطورية" لكن الشاعر يجدها في تلك اللحظة ، مدينة يضيع فيها الأيمان ويفقد فيها الأنسان الهدف والأمل:
هي مدينة الليل
وليست مدينة النور
هناك حلاوة النوم
ليست للعقل المتعب
الساعات القاسية فيها مثل السنين
والعصور تزحف
ليل يبدو كإنه جحيم لا ينتهي
هذا هو الهول المرعب
من الأفكار والصحو الذي لا يتوقف
أو الذي يسبت وهلة
ثم يطول
هذا الذي هو أسوء من الكرب
يحيل التعساء هناك إلى مجانين
ينفذ سكان هذه المدينة أدوارهم المرسومة كجزء من ماكنة كبيرة دائمة الدوران:
فهم الأكثر عقلانية
لكنهم مجانين
ولا يمكن التحكم بالجنون المطلق
عقل كامل في الدماغ المركزي
لكنه بلا صلاحية
ليس لديه شيء سوى الجلوس خاملاً وبارداً
يرى الجنون
دون أن يتأثر بشيء
الدمار مساره ومسعاه هباء
يخدع نفسه
حين يرفض النظر
في هذه القصيدة، الراوية مسافر غريب، يلتقي أثناء رحلته برحالة آخرين لا هدف لهم من رحلاتهم. وفي الحقيقة، تعج المدينة بالناس لكنها في ذات الوقت مكان تسكنه الأشباح . يمشي فيها المتجولون ليس ليصلوا إلى مكان ما ولا لتحقيق غرض آخر، لكن للوصول إلى شكل من أشكال التوبة تكفيراً عن خطيئة تجاه " الضرورة العليا" الصامته التي تغلف المدينة برمتها. ويرى تومسن أن آمال سكان " لندن" الحقيقيين ما هي إلا " أحلام يقظة" وبالنسبة للشاعر، فإن التجوال في شوارع المدينة ليس نسخة بديلة لها وليس نقيضاً للكآبة التي تقضي على إي إمكانية لوجود أمل وهو ما يتناقض حتى مع أكثر القصائد حداثة في رؤيتها السوداوية وأقصد فصيدة الشاعر الأنجليزي ، ت.س. إليوت ، صاحب الأرض اليباب وأغنية حب بروفروك؛ حيث نجد بارقة أمل، وتسود مشاعر إنسانية رغم الجحيم الذي يجد الناس فيها أنفسهم، في مدن، غير حقيقية، فيما يحشد تومسن قصيدته بصور غريبة ومظلمة ، تسودها نغمة متشائمة ، إستبق بها تومسن شعراء الحداثة ومدنهم :
أجواء تلك المدينة
مظلمة ومشحونة
ورغم قلة أعداد المنفيين
الذين يجوبون شوارعها
وقد تأبط الكثير منهم الشر
ليضيف كل واحد منهم
سماً للهواء المسموم
عدوى الجنون التي لا يمكن الأفصاح عنها
عدوى يأس عضال.
وهكذا تجسد هذه القصيدة صورة المدينة مكاناً للوحدة والغربة واليأس الروحي، الأمر الذي يتناقض مع الثقة السياسية والأقتصادية التي تمتعت بها أقلية في ( لندن) في القرن التاسع عشر، لندن، عاصمة الأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، لكنها عند تومسن، مدينة إدلهم ليلها وأنتشر سكانها هلعاً.. في بيئة ترمز إلى حالة من " التشاؤمية المعتمة في مراكز حضرية فاقدة لجوهرها الأنساني " وما أشبه اليوم بالبارحة...
وأنا أشق طريقي في الصحراء، هكذا بدت المدينة
و أنا أشق طريقي في الصحراء: كل شيء كان مدلهماً
في السماء ليس هناك من نجمة واحدة
وعلى الأرض ليس هناك من مسار
صمت متأمل دون حركة أو نغمة
كان الهواء ثقيلا حتى أنه تخثر في حنجرتي
وهكذا لساعات، بعدها، مرقت مسرعة أشياء هائلة ، تصيح بصرخات مهولة وأجنحة مقعقعة
لكنني مشيت رغم القسوة
غياب الأمل لا يمكن أن يحمل خوفاً
وفي كل مقطع يلي يكرر تومسن البيت الذي صار لازمة للقصيدة: و أنا أشق طريقي في الصحراء، تأكيداً لهول الكارثة التي وجد فيها الأنسان المعاصر نفسه بعد أن فرح بزوال الظلام وسرعة الأنتقال وعلو المباني الشاهقة، ليسأل من جديد:
ماذا أنا فاعل هنا؟
وينهي الشاعر حيرته بسؤال لنفسه والأخرين: مصيرهم موحش
ولكن، تراهم لا يأملون ولا يخافون
وأنا، ماذا أنا فاعل هنا؟
ربما لا شيء سوى التجوال في مدينة " لم تزرها الشمس" حيث يكتشف الشاعر أن " الحياة حلم " يأتي بأشكال مختلفة ، وفي هكذا مكان، ينتاب الشاعر إحساس بأنه في " مدينة موتى" حيث نجد ناع واحد أو ناعية واحدة لكل ألف ميت، في مدينة الليل ولكنها ليست مدينة النوم، ذلك لأن " النوم اللذيذ ليس للعقول المتعبة" التي تستنزف أصحابها بفعل " ساعات قاسية مثل السنين والعصور، تزحف" ويبدو فيها الليل " جحيماً لا نهاية له" ، معاناة تدفع الشاعر نحو الجنون، لأانه يدرك من يدخلون مدن الليل المرعب يتركون الأمل خلفهم.
نعكس قصيدة تومسن حالة القلق وعدم اليقين تجاه حالة التحديث التي إجتاحت بلاد الأنجليز والجزر البريطانية في العصر الفكتوري وما بعده. وحتى على مستوى الشكل والقافية والموسيقى، يجد الفاريء قصيدة تومسن إنعكاساً لحالة القلق والتوق للعودة إلى ثقافة تقليدية وفرت الأحساس بالأمان واليقين. فيما تعكس الصور قسوة التحديث وغياب الروح على وجوه سكان المدينة، صورة تعكس الشعور بالعزلة والأكتئاب الذي وجدناه فيما بعد في قصائد إليوت ومعاصريه وتابعيه: عشرات من السكان في نوم دائم أو مونى أو هاربون من طاعون لا إسم له...وما أشبة الليلة بالبارحة مرة أخرى.